الخميس، 12 يونيو 2014

مشهدان


مشهد رأسي..

نحن نجلس الآن في طاولة في قهوة ضيقة جداً بالكاد تتحمل الرواد، يتصاعد الدخان من جميع النواحي، فعلى الجانب الأيمن حوالي خمسة أشخاص يلبسون الجلابيب البيضاء المميزة للبدو والعرب، سأموا من الانتظار ويحاولون تضيع الوقت في مهاترات كلامية فارغة ليست مضحكة على الاطلاق، أو في اشعال سجائر بطريقة هستيرية تكاد لا ترى أصابعهم الا وتتشابك فيها السجائر، أو تسمع كركرة شيشة، وتميز رائحة المعسل، وعلى الجانب الآخر محامي رث الهيئة، بربطة عنق غير أنيقة بالمرة، يقارب وزنه المائة ويتشابك وجهه السمين مع جسده، بعنق قصير جداً، شاربه كشارب هتلر، والحق انه أشبه بالعم (فيرنون) في سلسة (هاري بوتر)، الأغلب ان هذا الشخص هو محامي!!! . أصوات كثيرة متداخلة أحاديث حول أحكام وقوانين جنايات وعن الاحوال العامة والاجتماعية والبعض يختلس النظر لمن حوله ثم يتحدث بصوت خفيض -الواضح انها امور سياسية-.
أنا ورفيقي في المنتصف بدأنا في محاولة بائسة للغناء، جائتنا أخبار سيئة عن رفاق القاهرة، وننتظر اخبار رفاق الأسكندرية،

"آخر خبر في الراديوهات وف الكنايس والجوامع وف الحواري والشوارع وع القهاوي والبارات .. جيفارا مات .. جيفارا مات"

يقطع الغناء بعض المكالمات الهاتفية، وينضم لنا رفاق آخرون ونغادر المكان. بعد قضاء ساعتين مع القهوة والفراغ، سيارات الترحيلات تأخرت ويجب علي العودة إلى المنزل بسرعة.



مشهد آخر ..

تتحرك سيارة بها أربعة عشر شخصاً، يجلس في الصف الثاني شاب، مجرد شاب، ترك رأسه يستريح على النافذة في محاولة لاختلاس فرصة ليغفو قليلاً حتى يصل لمحطته التي هي أيضاً محطة السائق الأخيرة.. تمضي بعض الدقائق، وتبدأ معها الأفكار تتداخل الأصوات، والمشاهد، يغمض عينيه وقد وصل إلى بداية النوم بشكل فعلي، تلتقط أذنه حديث بين سيدتين، لم يعلم هل هما معه في الحلم أم أنهما من الركاب لكن الحديث كان يدور.. لم يلق بالاً في أول الأمر، لكن انتباهه جُذب حين سمع كلمة (اختطاف)، جاهد حتى يجعل جسده يعتدل في جلسته على الفور حين تأكد انه لم يكن يهلوس، هذا حديث في الصف الخلفي بالنسبة له سيدة تحكي عن قصة ابنها لسيدة أخرى بجوارها، لم يمتلك الجرأة لكي ينظر إلى وجوههم حتى لا يقطع حديثهما لكنه ظل منصتاً بشكل دقيق.

يمكن يكون من القلة المحظوظة اللي الفرصة خلتها تشوف عتمة الزنزانة، بس متطولش فيها، التجربة اللي البيت كله عاش فيها مكنتش سهلة أبداً احنا مكناش فاكرين اننا ممكن يحصل لحد فينا كده، لكننا دايماً بنقول الحمد لله، هو بيقول ان الموضوع ده فاده كتير، مع ان التجربة مكنتش سهلة، حتى نتايجها مكنتش بسيطة أبداً.
لما خرج .. كان مجرد انه يرجع يعيش حياة شخص عادي تعتبر طموح بالنسبة لي، كان فيه شئ ناقص، فيه حاجة نسيها جوا. شعور جفاء طول الوقت لكل الناس اللي بيحبهم، حتى لما وصل البيت لما خدته في حضني وقعدت أعيط، هو فضل ثابت وهو اللي بيهديني، عينيه كان فيها غضب ويأس عمري ماشفته في عينه قبل كده، كلمت كل صحابه وقلتلهم انه وصل البيت وخليتهم ييجوا علطول، عشان يخرجوه من الجو النفسي ده، وبرغم انهم أول ما وصلوا هو اللي كان بيقلهم بابتسامته المعهودة عاملين ايه؟! الا ان اليوم كله أنا كنت شايفه عليه هالة من العتمة، انا عارفة ابني كويس لما بيكدب وهو كان كداب لما كان بيقول للناس انه كويس، كنت مستغربة انه بيضحك، وخجولة أقعد معاه يحكيلي عن حاجة، أنا عمري ما كنت بفهم ابني، هو اللي كان دايماً يحكيلي على الحقيقة اللي وصلنالها، أنا دايماً مؤمنة ان الانسان كل ما سنه بيزيد خبرته في الحياة بتزيد، لكن ابني كان حاجة تانية، ابني كان هو اللي بيقولي على حكاياته، هو اللي كان بيديني النصايح في الحياة، هو اللي كان بيحكيلي عن صحابه المظلومين، كان برغم انه بينزل كتير إلا انه كان شاطر في مذاكرته وفاهم كويس جداً، عمري ما كنت أحسب اننا في يوم من الأيام هنشجعه يسيب ثانوية عامة، لكنه تقبل الموضوع بكل بساطة.
بعد يومين وانا في المطبخ لقيته جاي وحط ورقة قدامي ومشي، متكلمش أي كلمة، أنا كنت مذهوله من سكوته ده، لكن شغفي اني أشوف اللي مكتوب في الرسالة نساني اني أكلمه، طلع من المطبخ وأن بفكر انه ممكن عاوز يتكلم أو يقول حاجة ودي أفضل طريقة هو شايفها للتعبير عن نفسه دلوقتي.. قريت الورقة وبكيت بعدها كتير، استني الورقة أنا شايلاها معايا دايماً مفارقتهاش من ساعتها، استني أقراهالك..

"كانت اللعنة المتلازمة هناك هي لعنة الوقت، انك تكون مش عارف المفروض تعمل ايه، عشان تضيع وقتك، انك تكون بتقول يا رب وانت مش في مخيلتك إلهك اللي فضلت دايماً تعبده، انك تتعايش مع العفن لحد ما تكون جزء منه، انك تحس بالذل وكل اللي تعرفهم بترموا بأفظع الشتايم، وانت مش من حقك تتنفس ان الأذى المادي عندك أهون بكتيير من انك تفقد الأمل، في كل شئ، سواء في الحياة أو الموت، انك تحاول تجذب الأفكار لعقلك بأي طريقة حتى ولو كانت الأفكار دي جنونية بالنسبة لمنطقك.
"الظلام والجوع واليأس كان يكوينا هناك".

النهارده الصبح كان أول مرة يتكلم فيها معايا.. صحا من النوم وراحلي وأول ما شافني حاضني جامد جداً وقاللي "الثورة جاية يا ماما متخافيش".

مر الوقت سريعاً، حتى أن الحكاية حين انتهت، كانت السيارة قد وصلت محطتها الأخيرة، نسى الآخرون محطاتهم التي كانوا سيهبطون فيها في المنتصف.
صمت.....
ماذا من المفترض ان يقول شخص عاقل في نفس هذا الموقف؟!!، توقف السائق، حيث وصلنا أخيراً، ولم يتحرك أحد، ثم وببطئ شديد فتح رجل باب السيارة وهبط منها والتفت إلى السيدة وقال لها "أنا آسف" ، وتتابع الباقي من بعده ببطئ، يفعلون نفس فعلته مع تغيير أنواع الكلمات والمجاملات، حتى لم يتبقى سوى السيدتان وهذا الشاب، هم بالنزول اولاً وكان لا يعلم ماذا من المفترض أن يقول أو أن يفعل، كان يريد أن يختلس النظر إلى وجهها عساها أماً لأحد أصدقائه، إلا أنه وعكس ما يتوقع تماماً هبط بهدوء ورفع شنطته فوق ظهره ولم يحاول حتى أن يتكلم، الصمت في هذا كان أفضل ما يمكن فعله.

وعلى أنغام دندنته سار في محاولة لابعاد أفكاره الشريرة.
"عليكي .. بعتب عليكي .. من عنيكي.. من نظرة ف عنيكي .. من وردة دبلت بين ايديكي .. بعتب عليكي"