السبت، 26 سبتمبر 2015

كل شئ هادئ في سماء المحروسة*


"من كل مجموعة من المقاتلين الأصدقاء، تتخطف المنية الغالبية في المعارك الأولى، ويبقى بعد ذلك عدد محدود، يبدو كأنه اكتسب نوعاً من الحصانة ضد الموت، يظل صامداً طيلة الحرب كلها، ولو امتدت سنوات كاملة...
وكان الجاويش (هـ) واحداً من هذه القلة المحصنة، جُند وهو في سن العشرين عند اندلاع الحرب، ولم يفته شئ من معاركها العنيفة الأولى. وها هو اليوم، محارب قديم في سن الرابعة والعشرين، يقبع خلف بندقيته طيلة ساعات النهار، وينام إلى جوارها شبه يقظان في الظلام، يصارع البق والقمل، ويداعب الفئران والجرذان.. وذلك بعد أن تجمدت المعارك في أكبر حرب خنادق عرفها التاريخ..."

كان صوت الراوي يخرج هادئاً خفيضاً، ولكنه يسري واضحاً مسموعاً في هدأة الليل وسكون العنبر..
واستطرد:
وكاد الجاويش (هـ) أن يصبح أسطورة، خاصة بين المجندين الجدد من صغار الشبان، الذين لا يزيد سن غالبيتهم عن السابعة عشر أو الثامنة عشر، وهو الذين ازدادت نسبتهم في صفوف المقاتلين في الشهور الأخيرة، كما زادت نسبة القتلى في صفوفهم لاخضرار عودهم وقلة خبرتهم في فنون القتال. وقد اشتهر الجاويش (هـ) كواحد من أمهر القناصة، لا تكاد طلقته تخطئ واحداً ممن يخطئون التحرك على الجانب الآخر من خط النار، فبين أي ظل من هياكلهم أو أي شئ من أطرافهم..."

كان الراوي يتحدث وهو ممدد على برشه، يطل رأسه إطلالة خفيفة فوق مخدته المصنوعة من "بدلة الشغل"، وهو في وضعه هذا لا يكاد يختلف اختلافاً يلحظ عن بقية سكان العنبر الممددين على أبراشهم على جانبي الطرقة، حتى إذا تلصص "غفر الليل" من "العين"، لا يستطيع أن يرى إلا نياما. وكان المعتقلون ينصتون في شغف واهتمام، إلى درجة أنهم لا يجدون عناء في مغالبة النعاس الجميل، بعد عناء يوم العذاب.
واستطرد:
"وفي يوم من أيام الربيع الأخيرة، ربيع 1918، كان الجو جميلاً، والشمس تملأ الدنيا دفئاً، والجنود يختلسون النظر إلى السماء الصافية من مكامنهم تحت الأرض... وعلى حافة الخنادق، وسط الأوحال، تبرز نبتة عنيدة او زهرة صغيرة. وحملت موجات نسيم ربيعي فراشة بيضاء، راحت تحط على تلك الأزهار الغريبة التي تمتص غذائها من بقايا البشر...
كان الصمت يلف الميدان كشأنه في تلك الأيام، وهو صمت لا يمزقه – بين الحين والحين- إلا طلقة من بندقية قناص، تجر في أذيالها صدى كالصفير، يخفت بعد لحظات في نغم حاد كئيب، أشبه بصراخ ذئب معدني صغير.. يعود بعدها الصمت المنذر يلف الروابي والتلال المجرحة التي تشقها الخنادق، وتكسوها الأشلاء والحفر، وتعمرها الأسلاك الشائكة والألغام....
وربما يصطحب صوت الطلق الناري بصرراخ ينبعثمن جندي أصيب على هذا الجانب أو ذاك من خط النار.. ولكن، مع مصي الأيام، يتعود القتلى على أن يتلقوا الرصاص في صمت وهدوء.."

صمت الراوي لحظة... وازداد الهدوء عمقاً في عنبر (1) العتيد... وتعلقت أنفاس المستمعين وهم ينصتون إلى ما يتذكره الراوي من مناظر وأحداث فيلم رآه منذ أكثر من عشر سنوات، وكثيراً ما يضيف من عنده عندما لا تواتيه الذاكرة...
وبصوت يزداد انفعالاً، ويزداد انخفاضاً، ويزداد وضوحاً في السكون الشامل... استطرد:
"الجاويش (هـ) قابع في مكمنه خلف بندقيته، وهو يرقب الجانب الآخر من خط النار بعين لا تغمض، وهو المشهود له باليقظة وإحكام الهدف.. غير أن جو الربيع الأخاذ لا يكاد يترك للشاب فرصة للتركيز.. ها هي فراشة بيضاء تعلو وتهبط مع النسمات الرقيقة الدافئة فتشد انتباهه .. وها هي تقترب فتلفت نظره –لأول مرة- إلى أن حولها نبتاً طازجاً وزهراً جميلاً متفتحاً.. وها هي الفراشة تقترب من حافة الخندق.. ويستطيع (هـ) أن يتأمل الفراشة عن قرب، بجناحيها الكبيرين البيضاوين، ويستطيع حتى أن يتبين خطوطاً سوداء موشاه في تنسيق بديع عند الحواف، ويستطيع أن يتابع حركاتها الموقعة، وهي ترفع جناحيها إلى أعلى وتضمها معاً، ليصبحا وكأنهما راع واحد كبير أبيض، يتمايل فوق مركب سحري صغير، ثم وهي تفردها فجأة، وكأنها أوزة بيضاء ترفرف خارجة من جدول ماء في قريته.
"ويمد الشاب يده نحو الفراشة..
وتتركز الكاميرا على اليد الممدودة.. يد قوية متناسقة مشدودة العضلات، تمتد نحو زهرة صغيرة عليها فراشة، وعلى تلك اللوحة الأليفة الفريدة التي تملأ الشاشة يدوي صوت طلق ناري، يعقبه ذلك الصدى المعدني الحاد الكئيب...
:ولا تتحرك الكاميرا عن وضعها .. ولكن، مع خفوت الصدى المعدني، ترتخي عضلات اليد الممدودة، وتنكمش وتذبل، وتنسحب خارجة من الشاشة، لتسقط مع صاحبها الذي أصبح جثة مكومة في قاع خندقه...
وعلى أنغام حزينة صارخة، تدور الكاميرا دورة متمردة على الميدان الغربي، الذي يعود أشد ما يكون هدوءاً ووحشة ووحشية"

وران على العنبر السحيق هدوء شامل.
وبعد أن التقط الراوي أنفاسه، واستعاد شيئاً من هدوئه، تسلل من موضعه فيوسط العبر إلى برشه في الطرف الأقصى القريب من الباب.

***
وفي صباح اليوم التالي، وبينما طابور العمل يساق إلى الجبل تحت ضربات الشوم، وبينما نجلس نحن القرفصاء في مجموعة "الدرجات" في انتظار سوقنا إلى عملنا المهين في الأوردي، أصابتني ضربة شاردة من الشاويش كامل، ولم اكد ألاحظ -بيني وبين نفسي- أنها أخف من المألوف، حتى فوجئت بالشاويش كامل يميل عليّ قائلاً ويهمس:- ماذا حدث للجندي الذي مد يده نحو الفراشة؟!

________________________________________________________
(*) هذا النص مقتبس بالكامل من كتاب الأوردي مذكرات سجين لـ د.سعد زهران

الاثنين، 14 سبتمبر 2015

مأساة السيد ماكار

في البداية..
الشخصيات الآتي ذكرها  تلك المرة ليست كتلك السابقة في رواية الفقراء لفيدور ديستويفسكي، فقد تم اقتباس الأسماء والأماكن، فقط للتمثيل بمدى العلاقة التي تربط طرفي هذه القصة، ولم نجد أفضل من علاقة ماكار وماتوشكا (كما كان يدعوها)، لذلك يجب أن أنوه أن الأسماء والأحداث وإن كانت تتشابه فانها تتشابه لفرض تلخيص العلاقة ليس أكثر، وإنما بطلي التدوينة القادمة يختلفان في الاهتمامات والسن وربما الخيال، فمن الممكن أن يكون بطلا الفقراء من خيال ديستويفسكي الخالص، لكني أضمن لك أن تلك التدوينة ليست بالشرط من خيالي، وإنما تتشابه مع الحقيقة بشكل ملتوى حيناً وواضح وصريح أحياناً أخرى.. وشكراً
J


الغضب..26 يونيو/حزيران

بعد عودته من العمل، وتناول الغذاء، سحب السيد (ماكار) أحد الكراسي الموجوده في غرفته، إلى قبالة مكتبه، وجلس عليه، واضعاً أمامه بعض الأوراق البيضاء، وشرع في الكتابة.

"الآنسة المحترمة فارفارا دوبرزيولوفا...
منذ فترة ليست ببعيدة قابلت (فيدورا)
في الطريق وأنا عائد من عملي، تبادلنا التحية والأحاديث وبعض الأخبار، ونقلت إلى رغبتك في الابتعاد، وأنني أصبحت مصدراً للازعاج والاحراج، ولا يصح لسيدة ستتزوج قريباً مثلك أن يكون لها صديق مثلي، وأن خطيبك لا يؤيد أبداً أي صداقة بيني وبينك، وأنه وضع قراراً بأن نبتعد، وأنه ليس علينا أن نتبادل الرسائل او الهدايا بعد الآن، وبعدها قالت لي (فيدورا) أنه لم يكن من السهل عليك أن تبلغيني بتلك الامور، وأنك أمرتها بأن تنقل إليّ هذا القرار.

في البداية كنت أظن أني اكثر تماسكاً، وأني أستطيع أن أتحمل كل ما تقدمه لي الأيام، فقد تحملت السخرية، الكثير والكثير منها، من زملائي في العمل، وجيراني في السكن، حتى وانا أسير في الشارع، أرى الناس من حولي تتهامس وتشير نحوي، أحياناً يخفون أفواههم حتى لا أشعر بشئ، وكثيراً ما يتهامسون بصوت يصل إلى آذاني في بجاحة وتملق، لكني اعتدت ألا أهتم بما يظنه الناس عني، بالتحديد الناس الغريبة، أنا من أعرف نفسي وأنا من يجب ان يحكم عليها، هذا لا يغير من الأمر شئ، وبالتالي فإنه لا يثير أبداً في نفسي غضباً، لقد تحملت مثل هذه الأمور كثيراً، ولا أعبأ، أما العذاب الحقيقي فهو سخرية نفسي مني، تلك الأفكار التي لا أستطيع التخلص منها، في بعض اللحظات التي انعم فيها بالهدوء من الناس، لكنها تكون لحظات قاسية، فأصوات عقلي لا تكون وسط الناس بالوضوح الذي تكون به في اللحظات التي انعم فيها بالعزلة، لتطاردني دائماً وتنهش في أفكاري وذكرياتي، في النوم وأثناء تناولي الطعام وفي مكتب العمل، هذا يعد عذاباً فعليا لكني أتحمله في صبر وتجلد، فالأيام لا تتشابه بشكل او بآخر، وكذلك أحوال الناس. ولا بد أن تنتهي كل تلك المأساه.
 وأثناء هذا اتضحت لي أموراً كنت غافلاً عنها، فما كان الناس من حولي يسخرون منه كنت أنا آخر من أعلمه، فما علمته وفهمته من همس بعض زملائي في المكتب المجاور لمكتبي، أن خطيبك لم يكتفي فقط بقرراته المتعجرفة، لكنه الآن يشرع في نشر الأكاذيب عني، وقول ما لا يصح في حقي.

وفي ذلك السياق.. أنا عاجز عن إخفاء شعوري الجارف، بادانتك ادانة كاملة على ما وصلت إليه الأمور، أن أخفي مدى أحقيتي الكاملة في القول أنك المذنب الأول في كل الأذي الذي تعرضت وأتعرض له في الآونة الأخيرة، حيث إن كل ما كان يحنقني كان مركزه وسببه أنت يا آنسة (دوبزيولوفا). وحتى تتضح النوايا وتتضح الأمور، وحتى تهدأ نفسي المرتابه، يجب ان أوضح لك بعض الحقائق، لست بصدد أن أعاتبك على شئ فعلته، ربما لأنني أرغب في المستقبل أكثر مما أحن إلى الماضي، او أن العتاب لا يجوز إلا للأصدقاء، وأنت أنهيتي صداقتنا بكل بساطه، دون حتى ان تكلفي نفسك عناء، توضيح أسباب مقنعة، أو حتى دون رسالة توضح قرارك، رسالة تشفي اضطراب نفسي التي اتصور أنك تعرفينها، نفسي التي شعرت في البداية أن ذلك ليس حقيقياً، ثم ما إن اصطدمت بقسوة الانتظار، حتى بدأت في التشكيك اننا كنا أصدقاء يوما ما.

إن كان لي أن أعبر لك عن شئ فبالتأكيد سأبدأ بالدهشة، فالصدمة، فالغضب، ثم خيبة الامل، انقطاع الرجاء، فقدان الإيمان، فلا خيط يا آنسة من الممكن أن أتمسك به في تلك الفترة من حياتي المديدة البائسة، لا شئ من الممكن أن يغريني بالبقاء هنا لأحارب، أن أقاوم واتجاهل، كل هواجس الانعزال التي تنتابني كل ساعة، وتزداد يوماً بعد يوم، حتى في الأحلام، ذاك العالم الوردي، الذي أصبح ملبداً بالمخاوف والكوابيس التي اعجز عن معالجتها، العالم أصبح مكاناً يفوق احتمالات الصبر، ويالعجب أني لم أكن أتصور ذلك من قبل،فما كان بالأمس يمثل قوة، بات اليوم مصدراً للخزي ومنبعاً للازعاج والاحراج والعذاب.



لكن على قدر إيماني بأنك المُدان الرئيسي فيما جرت إليه الأحداث، فأنا أؤمن إيماناً كاملاً، بان صداقتنا كانت أصدق من أي شئ عرفته يوماً ما، حقيقية للدرجة التي من الممكن ان تجعلها قَسَم، لا شئ أو شخص من الممكن ان يحول إيماني بذلك، حتى  إذا كان هذا الشخص هو أنت، لأن صداقتنا، وذلك الشعور الجميل الذي كنت تخلفينه يا آنسة (دوبرزيولوفا)، ملكي انا، ليس من حق أحد أن يشكك فيه أو ان يسلبه مني بأي شكل من الأشكال، أو يقلل من شأنه بالتسفيه والاحتقار.
 
أنا لا أكرهك يا (فارنكا)، أبداُ لم ولن أفعل، لكنك لم تتركي فرصة أتشبث بها كي أسامح كل ما فعلتيه وكل ما تسببتي فيه، أن أتخلى عن احساس الرخص وتقليل القيمة الذي جعلتيني أشعر به، أن أتخيل أنك تعيشين ما اعيشه، تشعرين بما أشعر به، حانقة كما انا حانق، حتى الفرص الضعيفة التي كنت أتشبث بها، كنت تقطعينها بكل سذاجة وكأنك غير عابئة بأي شئ."

توقف السيد (ماكار) عند تلك النقطة، ووضع قلمه على المكتب، وأخذ يتنفس بمجهود وصوت واضحين، كمن كان  يخوض معركة لأول مرة في حياته، وفي ثواني بدات الدموع تسيل من عينيه التي أحاطت بهما هالتا سوداتان، وأمسك الورقة التي كتب فيها ومزقها بقوة، فيما احمر وجهه، وبرزت عروق عنقه وشعر صدره ببعض الاختناق، ففي تلك اللحظة كان السيد (ماكار) ينتحب وبشده. 



النص..
27 يوليو/تموز

أثناء جلوس السيد (ماكار أليكسفتش) يائساً ومجهداً على مقعده أمام الطاولة المليئة بالكتب والأوراق والأقلام المبعثرة، وهي ظاهرة تكررت كثيراً في الأيام الأخيرة، لانشغاله بمشاكله الخاصة، في وقت العمل، قرر الكتابة، وبشكل عفوي كمن اعتاد على ما يفعله، وضع ورقة بيضاء امامه وشرع في الكتابة.

"ربما الصلاة لا تكفي، صلوات الصباح والمساء في القيام وعند جلوساً وعلى الجنب، ربما القرابين لا تصلح، فقد منعها الشيطان، أو أن المقام لم يصبح كما كان، ربما الرحيل، أو غبائي، عرفاناً وتأسفاً وغضباً وكراهية، تولد شعوري الغامر بالحنين، لأمسية قديمة، للمسة أنامل رقيقة تعزف، لجسد منهك لقلب لاهث لآذان تُصغي، لرائحة قهوة نفاذه، فجوة تمتص..  تكسر.. تنتهك؛ حيثما تتواجدين لا توجد..  تتلاشى لقدومك، تنهار لابتسامتك، فتعود الحياة للمرح والحب والدموع، كرؤيا خاطفة للجمال، كبهجة.. تخطف تتابع الأيام البطئ، ياللعجب.. لا أجد نفسي وحيداً.  حتى جاء الشيطان، بعثر كل أحلامي في الحياة، فتمثلت صورتك كما لم تكن من قبل، ينتابها الضباب، يوماً بعد يوم، أكسب الأعوام بروده وعزله، مهدداً كل الآمال، محرومة من وجه الجمال، محرومة من الحياة.
 صليت وركعت واستجديت الكرام وقدمت القرابيين، ذكرت مجالس الخمر، وافتتحت بالنسيب حيناً، وقدمت الحكمة أحياناً، لا صوت، لا رد، لا اجابة، لا شفاء؛  فلا أحد يقاوم شيطان.  عادت الفجوة أكثر اتساعاً، تمتص، تكسر، تنتهك. 
وفي خضم اضطرابي ويأسي من مرور الأيام الذابلة سريعاً، قابلت الشيطان، سأل: إلى أين المسير؟، فقلت: أروح لمجالس القوم، قال: عد فلا قوم لك في تلك المنازل، فإننا قد سكناها، فلا جدوى لمسيرك، قلت: وما الدليل؟، قال: أترى بعينيك؟، قلت: نعم، فسرنا حتى وصلنا إلى أطلال كانت يوماً من الأيام منازل، وما إن هممنا إلى الدخول حتى نعقت أبوام سمراء، تعشش على أسطح تلك المنازل الخربة، فتوقفت على إثر ذلك، ونظرت جانباً فرأيت عينيه قد تطايرت منها الكراهية، فألقيت بحملي إليه، والتفت سريعاً وركضت ركضاً طويلاً، ملتمساً طريقي للعوده. 
فمن أغضب شيطاناً نجا.. ومن لبث الشيطان في بيته هالك لا مفر."

وبعد انتهائه من هذه القطعة، طوى الورقة بعناية، وووضعها بدقة في ظرف، ثم قلب الظرف وكتب عليه "إلى السيد ألكسندر بوشكين.. آملاً في رد من حضراتكم"، وبالأسفل كتب عنوناً في مدينة (ميخايلوفسكوي)، وبعدها نادى على ساعي المكتب، وأمره بأن عليه ان يوصل هذا الظرف إلى مكتب البريد سريعاً قبل أن ياتي ميعاد اغلاقه وانصراف الموظفين منه.
 
 

الواقع..30 أغسطس/آب

الآنسة فارفارا دبروزيولوفا..
غداً أهاجر سفراً بلا رجعة، وذهاباً بلا عوده، راجياً أن أفعل ما عجزت عن فعله طيلة السنوات الماضية، وهو أن أصبح تلميذاً للسيد (ألكسندر بوشكين) الشاعر العظيم.. فقد راسلته منذ فترة، ودعاني إلى أمسية شعرية في منزله بمنفاه في مدينة  (ميخايلوفسكوي)، وعلى امل كبير بان أنضم إلى مجموعة تلامذته، فقد آثرت أن انقل محل عملي إلى هناك، وقد تم الموافقة على ذلك أول أمس، وأظن ان هذا الانتقال اسعد المدير كثيراً.
قرأت يوماً أن على المرء إذا ما واجهته الحياة بالآلام فعليه أن يكون جديراً بها، ولكن يوجد شيء واحد فقط يروعني , و هو ألا أكون جديرا بالآمي*، والفترة السابقة اتاحت لي فرصة مناسبة كي أوجه آلامي لكي أنجز ما أردت تحقيقه دائماً، والفضل في ذلك يعود لك، سأغمس شعوري الغامر بالحزن لكي أخرج نصاً حقيقياً، ملتزماً، سأغمس ألمي في كتابتي لكي أكون جديراً بما اعاني. سأكتب لكي لا يكون هناك داع من الحزن.   


فأيضاً لا مجال للقول أننا سنعيش بذلك الشعور إلى الأبد، لكن يكفي أنه في لحظة ما في يوم من الأيام سنقرأ تلك الكلمات ونتذكر الأيام الخوالي التي كنا نتراسل بها، سنتذكر ونبتسم، ونَحِن مرةً أخرى، سنتستمد شعوراً من الماضي لنؤمن بعدالة الواقع، لا يجب ان يكون ذلك الشعور، شعور بالخزي او الخجل، لا يجب أن نجعل الحزن يسيطر على قلوبنا، ويخيم على ذكرياتنا في الايام الجميلة التي قضيناها في الكتابة والمراسلة، وتلك اللحظات القصيرة التي كنا نتبادل فيها الحديث وجهاً لوجه.

تقبلي مني وداعاً اخيراً، وأملاً أبدياً في السعادة لكلينا


ماكار أليكسفتش