الأحد، 28 أغسطس 2016

ما فعله النص بالكاتب

منذ فترة ليست قصيرة تركت الكتابة المنتظمة بشكل كبير، خصوصاً أن السمة الأساسية التي كنت أكتب من خلالها -سواء ما تم نشره أو ما احتفظت به لنفسي- هي الرسائل، والدافع الأساسي الذي  كان يحرضني على الكتابة هو اكتئابي، ببساطة كنت أكتب لأني غاضب. استجديت الكرام وتذللت لربة الالهام عسى أن أنال منها أسلوباً جديداً، انغمست في رحلة طويلة لمكافحة دوافعي، اعتبرت الكتابة عدو لا يجب التصالح معه، اعتبرتها عنصر تشتيت عن معركة أساسية، وسيلة من وسائل الهروب عن الحقيقة، لقد كانت الكتابة هي الحياة المترفة في وجه حقيقة الفقر.
أصدقاء وهميين، رسائل لمجهولين، أعزاء من طرف آخر لا أعلمه، كانت الرسائل هي شفائي الوحيد -كنت أظن ذلك وقتها-، كانت الكتابة بالنسبة لي محاولة في سبيل الخلاص الفردي الذاتي من غضبي وحزني، لكن ذهبت السمة وبقى الدافع.
أنا الآن لا أكتب لأحد، سأكتب عن كل شئ، لن أدع مجال آخر للتكهن، لأني سانزل جام غضبي على كل ما هو هش. .ضعيف ، لا معنى له، سأنتصر للذوات الضعيفة في مقابل السرديات اللاعقلانية، سأحترم عزلتي وأدوي كالصاعقة، لأني كما قال نيتشه "لهيب" ..!

الكتابة كتعبير عن اللاشئ
"لشئ ما عيوبه دائماً.. وحده اللاشئ كامل"
تقول نانسي هيوستن في كتابها أساتذة اليأس، أن من ضمن الخصائص التي امتاز بها المفكريين العدميين هي الكتابة ومحبة شوبنهاور، ربما تكون الثانية مفهومة ومبررة، القراءة للأب الروحي للعدم هذا أساسي ومنطقي، لكن ما ليس مفهوماً هذا التشارك على الكتابة، الكتابة هي السبيل الوحيد للخلاص الجمعي، الكتابة تتفوق على الانتحار في الخلاص، الكتابة فعل سوداوي عدمي تؤيد النهاية، وتشكل الروابط، وتنسج العلاقات المتعددة؛ كي نصل في النهاية للسرد العدمي، إننا لا نستطيع الهروب من الأفكار العدمية، إن هذه اللاعقلانية واللامنطقية التي أصبحت سمة العصر الآن لن نستطيع الهروب منها بحال من الأحوال إلا من خلال الكتابة، الكتابة هي عزاء العدمي في معركته المستمرة ضد إرادة الحياة، لأن العدمي يستطيع في أي وقت أن ينتحر هكذا ببساطة، لكن هذا شئ لا يليق بشرف الانتماء لفلسفة شوبنهاور، فعلينا بدلًا من أن تخلص من هذه الفرديات الضئيلة المسماه حياتنا، علينا أن نسعى للخلاص الجمعي المتمثل في إفناء هذه الحياة البشرية السخيفة، ولذلك على العدمي أن يقاوم دائماً رغبته في الانتحار كما يقاوم الجندي الهروب من المعركة، هذا الطرح يضعنا في إطار آخر.. وهو لماذا نكتب؟!، هل نحاول فعلاً الخلاص من خلال الكتابة، أم أن أفكارنا الكامنة تؤيد العدمية دون أن نعلم؟!!.


التدوين..
علينا في أي نص نحاول كتابته أن نتقيد بشكل من أشكال الالزام اللغوي، وحتى الذين حاولوا أن ينسلخوا من اللغة قدر الامكان مثل صامويل بيكيت، اشتركوا في كتابة رمزية فقط. لأن الشرط الأساسي في النص المنشور أن يفهمه قارئ، تقول ساخراً: بالتأكيد!.
لكن في حالة التدوين لأنفسنا نحن لسنا ملزمين، لماذا عليّ ان أصنع شكل من أشكال الترابط في النص إذا كنت أنا صاحبه وقارئه؟!، لماذا علي أن أبرر أفعالي طالما انا أعرفها أو أعرف نفسي جيداً؟! اني هنا لا أحاول أن أستنكر وأعترض قدر محاولتي لفهم هذا الشئ المثير للاهتمام، وهو خلق الناس الروابط لأنفسهم؟!
من نحن؟!.. لا أعلم.
إننا نؤكد في كل تدوين أننا لا نعلم من نحن، إننا نتغير، نؤمن بهشاشة معرفة أنفسنا، فمع مضي الوقت لا نكاد نعلم كيف كنا في السابق، إننا نتخيل انفسنا في الماضي لكننا لا نعلم.. حقاً لا نعلم.. ولذلك نصنع روابط لانفسنا المستقبلية لنضيق لها مساحة الخيال، أو لنصنع لها طريقاً أقرب للواقع منه للخيال، إن قيمة النص تكمن في المعاني التي تقف خلف هذا السرد، فكيف لنا ان نتكهن بمعرفة هذا المعنى في وقت كتابته، يا للسخافة الكاتب يكتب ليقرأ بعد فترة من الوقت، لكنه يكتشف أثناء القراءة أنه حقاً لا يعلم عن هذا الكاتب شئ.. إننا نضع لانفسنا أدلة. الكتابة هي تسجيل التداعي..! 

تبرير الكتابة 
أقع دائماً في ورطة التبرير، لماذا أكتب ؟! لماذا أتكلم عن الكتابة أكثر مما أمارسها؟!، أنا لا أكتب منذ حوالي سنتين، لكني لا زلت أفكر في بداية مناسبة، وهذا ما يصنع الخلل والتردد والحيرة، أنا أرى الكتابة بشئ من الكمالية، شئ من المثال النبيل الذي يسعى الانسان إليه، الوسيلة النبيلة التي يتصل من خلالها الانسان بالماضي والحاضر، ويعبر عن أخطائه البشرية وكل ما يتصل بها من أشياء، وأفكار، وآلام، لا أستطيع منع نفسي من الانتقاد، كل شئ.. الأسلوب، الكاتب، افكاره، سرده، معلوماته، الوعاء الفكري والفلسفي الذي انطلق منه، كل شئ قابل للجدال، كل شئ قابل للانتقاد، ربما لأنه سئ جداً، أو لأن كاتبه لا يعلم حقاً ما كتب!، النقد والتمحيص والتحقيق وراء الكاتب، هو ما يصنع من الانسان أفكاره، هو ما يحفز قيمة الغضب والجلد والرغبة في الأحسن، هو ما يمكن أن يقلب عالم الثقافة الراكد، لكني ما إن أشرع في الكتابة حتى أقع في أخطاء أشد من التي أتصيدها..!

الكتابة كتنفيس عن الغضب..
الكتابة فعل يقوم على ارادة، هي ليست فعل سليقي كالشعر، لا يحتاج الانسان فيه سوى أن يمتزج شعوره برغباته وأفكاره ويبدأ في التعبير عن نفسه في سيل من التراكيب والمفردات المكونة في عقله، والشعر إن لم يخرج سليقياً فقد انتفى منه جانب مهم من جوانبه،  رغم ان هناك من الشعراء من كان ينقح شعره، فيخرج في كل عام قصائده بعد تنقيح شديد، -مدرسة الحوليات مثلاً-،  إلا أن الشعر يكون أفضل وأجود كلما كان سليقياً، والنسق الشعري ربما لا يريده الشاعر، فقد يرمي إلى معنى، وتكتشف أنت معنى لم يخطر على باله أبداً..!،  اما الكتابة فهي بحاجة للارادة، ارادة أن تقول ما عندك، وقدرة بأن تعبر عنه، وفن بأن يخرج كما تريد، وبلاغة أن تصل إلى القارئ كما تريد فعلاً أن تصل، لذلك لا تستطيع أن تصبح كاتباً بسهولة، لذلك تصبح القيود في النص عند الكتابة أكثر، ولذلك لا يمكن لكاتب أن يكتب إلا إذا راجع ما كتب، وأن يفكر في المعنى وما يمكن ان يشكله من معاني ما ورائية، وأن يفكر في ترابط الأفكار والألفاظ، وما إن كانت تشكل نفس المعنى الذي يرمي إليه أم أن الأحداث فقط ليس لها علاقة بأي شئ، وحال تجاوز كل هذه السجون، تدرك في النهاية ان الكتابة لا تخفف عنك وانما هي تقسّي قلبك ليجعلك تواكب ما تستقبله من مصائب، فالكتابة ليست فعل نسيان وإنما الكتابة فعل تذكر، الكتابة ليست وسيلة من وسائل التحرر، لكنها وسيلة من وسائل الحصار، حصار المجتمع لذواتنا المتفردة.. يا للمأساة..!