الجمعة، 31 مارس 2017

عزاء يشبه المقدمة

كيف لي ان أقدم نصًا..!
لدي مشكلة عميقة مع المقدمات، كلما أردت أن أكتب عن موضوع  لا أجد البداية المناسبة، وإذا وجدت تتبخر الروابط، وإذا تشبثت بها -أو بالأحرى تشبثت هي بي- أنسى ما كنت أريد قوله.
 ابتعدت عن الكتابة لما يقارب العامين بسبب العجز عن التقديم، العجز عن تشكيل الروابط، العجز عن الالتفاف حول فكرة أساسية، ظننت دائمًا -أصبح اعتقادًا مؤخرًا- أن تمثيل المشكلة الوجودية المؤرقة للإنسان طوال العصور بالكتابة تمثيل في محله للغاية.
المقدمة عضو أصيل في آلة المنطق، لا يمكن أن تبني برهانًا إلا من خلاله، ولا يمكن أن تعرض أفكارك قبل أن تتجاوزها، هي جزء من نسق يؤمن بالعقلانية، بالسرد التسلسلي، نسق لا يؤمن بفضح الكاتب ولا يفهم تعبيراته الفجة عن خلجات نفسه، نسق لا يحيا في مثل هذا الجنون. التدوين فن تعبيري ملتصق بتلك الحياة، التي لا نعيشها إلا مرة واحدة، لا تتكرر، ولا تتشابه ، ولايمكن أن يُعقلن إلا النذر القليل منها، التدوين عدو للمقدمات، فلا هو يستطيع أن يؤمن بالمجاملات والتزيين، والشفافية، ولا هي تستطيع أن تستوعبه أيضًا، بكل ما يحمله من أفكار تدميرية وكابوسية وعدمية قاتلة، المقدمات سماح للقارئ بالتدخل في خلق النص، نافذة للف المشنقة حول النص المدون.  القارئ لا ينفك في محاولات القراءة والتأويل، هذه وظيفته، لكن ليس من حقه التدخل بمعنى.
 أفلا يدعونا هذا إلى قتل المعنى، وحرقه ونثر رماده على العبارات..!

انشغلت بالفلسفة، ورفعت أستارها في حياء وخجل -أو ربما عدم ثقة-، كنت أريد أن أجد إجابة تعلل تقلب هذا العالم وتغيره، أريد أن أفهم طبيعة هذا النسيان وهذا الحزن، كيف يستطيع القَدَر أن يُشكِل نفسَه من خلالهما، كيف يتسنى له أن يعجن المصائب بمرح، ويتركها تنضج، ويقدمها لنا على طبق من فضة، كنت أتسائل عن الطريقة التي تستطيع السذاجة من خلالها أن تغير المصير، وتقلب السعادة شقاء، والألفة غربة، والسرور إلى عبوس، تساؤلات بلا أجوبة، وما كنت أسأل عنه في البداية، وجدتني أسقط في دوامة من التساؤلات التي تقبع خلفه، فكلما سألت سؤالًا أجد آخر ينتظر قبلًا وإجابات ترغب في حسم أمرها، لا الحزن يرحل، ولا أنا أبتعد،، كل شئ مِلك يدي، أنا سيد ذاك العالم.. أضع الإجابة التي تناسبني، وأثير الشكوك والتساؤلات حول ما يؤرقني، وأجعلهما أساسًا أدور حوله وأسير من خلاله، المشكلة الصغيرة بإمكانها هنا أن تكون مشكلة وجودية، السؤال الصغير تحول إلى مركز، والطريق أصبح محاولة لحصره..!

أُغرمت بالعلاقات والروابط، كيف تتشكل الرابطة بين الأشياء وكيف بإمكاني أن أهدمها رأساً على عقب، كيف بإمكاني أن أخلق عالم متكامل من الحتميات، ثم أخرج من خلاله وأقول أنا حر.. هكذا بكل بساطة، أتكلم بدون ترتيب وأنهي خطابي بسرعة.
فانا الآن ملك ذلك الاختراق أخلقه وأسير خلاله..!

 آمنت في النهاية أن الهجر هو الأساس الذي ننطلق منه في مسار دائري بحثًا عن الذات،  لا نذهب إلى تلك الرحلة قدر ما نساق إليها، فمن ذا الذي يذهب إلى العالم الآخر بكل مرح؟! أمنت أن الألم هو الوسيلة المُثلى لإدراك مدى الاغتراب الذي ننغمس فيه، الوسيلة المُثلى لفهم مدى هشاشة هذا العالم الذي نعيش فيه، نتكأ فيه على فهم الآخرين، ومجهوداتهم، ومنتجاتهم، ووجودهم، وحبهم، أو كراهيتهم حتى، ننعم بكل ما تنتجه الجماعة، ونعيش في رفاهيتها.

 لا يمكنني أن أمجّد ذلك الزيف -ما أراهن على زيفه-، لا يمكن أن أخفض أنيني بانغماسي فيه، ولا يمكنني بحال من الأحوال أن أراهن على الفردانية بكل ما تحمله من هشاشة، لكن ليس هناك سبيل آخر..!
هل بإمكاننا ان نتصالح مع كل ما هو زائف خوفًا من كل ما هو مجهول؟!
 
 الأفضل سبيلًا وعلاجً هو أن ننزوي ونتقوقع مع أنفسنا وداخلها، محاولين أن ننتج ثنائية من أنفسنا مخاطب ومتكلم.  ففي تلك الحالة لا يمكن أن نراهن إلا على الرضا بالشئ الحقيقي الذي صنعناه، لا يمكن أن نضمن إلا ذلك.
 في تلك الحالة نحن من نصنع العالم لا العكس، ونحن من نتحكم في معايير تدخلنا مع العالم، وليس هو، إننا نمسك زمام أمورنا من خلال هذا التقوقع، في محاولة لفهم الأبعاد وضبط الحدود بين الذاتي والجمعي، من أنا؟!  ومن هو؟!.
إننا ندين للهجر بشدة لا يمكن انكارها، ندين له باعتباره سبب أساسي للبحث عن الحقيقة..!