الأحد، 30 أبريل 2017

غنوة للموت II

في زمن بوذا كانت هناك امرأة في ريعان الشباب تُدعى (كريشا كوتامي)، رزقها الله بمولود صغير، يملئ القلب سعادة، ويمنح الروح السلام، ويغمُر الأيام بالتجدد، والحياة بالمعنى. عاشت في ظل ذلك الهناء شهورًا لم يُكتب لها أن تُتم العام الواحد، حتى جاء المرض ينهش الجسد الصغير، ويرقده الفراش لأيام، ولم يتركه إلا وقد أسلمت الروح نفسها للموت، وأخذت معها كل سلام في قلب الأم. وأصبح فؤاد (كريشا) فارغًا تقضي الأيام في الطرقات حاملةً جثة الصغير الهزيلة، تلتمس بها السائلين، وتجوب الأروقة، مسحوقةً بالحزن، مكبلةً بالألم، تتوسل كل من كانت تلقاه أن يشير عليها بكيفية تعيد بها الحياة لهذا الصغير. لم تعبأ للمتجاهلين وناعتيها بالجنون، وظلت تبحث وتسال المارة، حتى نصحها رجل حكيم بالتوجه إلى بوذا نفسه، فذهبت إلى لقاءه، ووضعت الجثة الصغيرة أمامه وحكت له مأساتها، فاستمع إليها بمنتهى الشفقة، وقال بهدوء: "ليس هناك إلا دواء واحدًا للداء الذي يُؤرقكِ، انزلي إلى المدينة، وعودي إليّ بحبة خردل تكون من بيت لم يعرف أبدًا أي ميت.."

طرقت الأبواب رغبة في العثور على الدواء، وتاقت نفسها للرجوع إلى بوذا محملة بالإجابة، ولكن الإجابات ظلت كما هي، فبالنسبة للخردل فليس هناك أي مشكلة، لكنها لم تجد البيت الذي بإمكانه أن يعطيها الخردل بالشرط الذي وضعه لها بوذا، وبنهاية اليوم كان التعب قد أنهكها، وقد طرقت معظم الأبواب. ولا أمل في العثور على الدواء. فصعدت إلى بوذا لا تحمل إلا اليأس، فلا أمل لعودة الصغير إلى الحياة، ولا جدوى لبحثها الحثيث.

العودة بالدواء..
تتخذ الموعظة من تلك القصة مركزيتها في عودة المرأة إلى بوذا محملةً بالإجابة الحقيقية الوحيدة، فبكل ثقة وامتلاء عادت المرأة وهي لا تؤمن بشئ قدر إيمانها بالتقلب واللادوام، وأن المؤرِق الحقيقي لها هو ذلك الأمل، والتوقع بامتلاك العالم وامتلاك معناه وحقيقته، فالحكمة تكمن دائمًا في أن نتخلى عن كل ما هو زائل وغير حقيقي، تكمن في التخلي عن كل ما بإمكانه أن يُفقد، وكبوذية خاشعة آمنت أن اليأس هو الإجابة، ولا طريق للسعادة إلا من خلاله..!

إذا حاولنا استعادة القصة مرة أخرى، سنجد أن المرأة كان عليها أن تتوقع شيء آخر في البداية، ففي بداية هبوطها إلى المدينة كانت تتوقع دواءً من نوع آخر، دواء بإمكانه أن يُعيد الحياة إلى رضيعها مرة أخرى، فهي لم تبحث عن معنى في البداية قدر بحثها عن إجابة محددة ودواء لغرض معين، وحكمة بوذا كانت تهدف لكشفها عن رمزية هذا الفقد، وهل بإمكانه أن يكون في صالحها، ثم كانت هناك مرحلة من العناء لبلوغ هذا الغرض، ومرحلة في المنتصف بالتأكيد بدأت فيها التساؤل عن مكانتها المتسائلة الحقيقية، مرحلة "لماذا بإمكان الموت أن يختطف الصغار؟!" ثم مرحلة التسليم التام، "من أنا كي أضع قواعد للموت؟!" ومن ذلك السؤال الأخير بدأت في بناء قناعتها باليأس المضاد لكل تعلق والمضاد لكل أمل، فمن هذا الأمل يأتي الشقاء دائمًا.

لماذا الأمل ضروري؟!
القناعات المركبة دائمًا بحاجة لمضاد يبررها، هل كان بإمكان المرأة أن تصل إلى تلك القناعة إلا بقناعتها الطموحة السابقة، وعنائها الذي باء بالفشل في النهاية، هذا اليأس لا يمكن أن ينمو إلا بفشل شخصي، فشل نطبع عليه مكانتنا الوجودية من هذا العالم. اليأس إذا غير مبرر في ذاته ولا يُمكن أن يُخلق إلا في ظل أمل يبرره، ويقتات عليه، فالحياة وفق الواقع تقتضي أن نؤمن بتجربة العنفوان، والامل والتمسك القوي بالحياة، لأن هذه الهشاشة التي تحكم الحياة، لا يُمكن بحال من الأحوال أن تُكتشف إلا بتجربة شخصية.

الحياة وفق الموت..
رغم إحاطة حقيقة الموت بالموجودات كلها، فهناك اختلاف في تصور الفكرة وإدراكها وتقبلها، فالانسان يتميز بقلقه الوجودي، وتتمايز أفراده في مقدار ما يشكله الموت لها، لذلك اهتمت الحكمة القديمة أن تستوعب الحياة في إطار الموت، وجاءت الأديان لتؤكد أن الحكمة كل الحكمة هي في تقبل الفناء، واللادوام، وأن الموت حقيقة لا يُمكن الفرار منها، وهذه الحقيقة هي المُعطى الاساسي في عملية فهم الحياة، فالسعادة مرتبطة بتقبل الحياة كما هي، وبفنائها، وبالتخفف من أحمالها.



الثلاثاء، 11 أبريل 2017

كنس مدخنة

حينما نريد أن نتحدث عن شئ ما، نحاول في البداية حصره وتأطيره، واكتشاف سياق يمكن أن يوضع فيه، ونشرع في الحديث عنه بعد ذلك. هذه العملية تُهمل أجزاء كثيرة قد تبدو للمتكلم ليست ذات أهمية، لكنها في الحقيقة تُشكل جزء من الاكتمال -على الأقل بالنسبة للمستمع-.
ما أريد قوله هو أنه لا يُمكن بحال من الأحوال أن نصف بشكل متطابق، نعم.. قد نقترب من المعنى، ونعم.. قد يصل هذا الاقتراب إلى المستمع، لكن محاولة الادعاء بأن هذا الكلام يطابق هذه الحقيقة هو من مجال المبالغة الفجة، إن قدرتنا نحن كبشر على مطابقة الحقيقة من خلال الكلام هراء وسخف، وحالما ندرك هذه الحقيقة يتمثل لنا سؤال الحقيقة بكل خيلاء... ما هي؟! وهل بامكاننا أن نحصرها؟! هل بامكاننا أن نتجاوز ما نسميه الحقيقة؟!
هذا بسيط للغاية لكنه جنوني لأننا حالما نعتبر الكتابة وصف رمزي للواقع، لا نعلم أيعني هذا أن الواقع أكبر من ذلك الرمز، أم أن الكتابة ليست سوى تعبير عن علاقات عابرة تافهة سعيدة!؟

"أستيقظ فأعود إلى الرتابة.. إلى اللاشئ.. لم أقفز بعد إلى هاوية، أنا على الحافة. لم تكن نهايتي إلا سراب، نهايتي أصبحت مألوفة أيضًا، كمخاوفي وهروبي، عقلي يتصارع بعنف، بلا حياء، بلا استئذان، أقف في منتصف الصمت، لا صوت قبل، ولا صوت بعد، لا أعلم ماذا أسمي هذا، لكنه ليس الصوت، ليس الضجيج، ليست الحركة، لا أراني، لا أسمعني، ولا أشعر بالألفة. وكأن شيئاً لم يكن.
 كأني لم أتخيل انتحاري بالأمس، كأن الدماء لم تُغرق ذاكرتي بصمت، كأن اللون الأحمر الداكن لم يتسرب ببطئ إلى عيني، كأنني لم أبك على ما فات، وما سيكون، وما يقف في المنتصف شاهدًا على ما حدث. هذا الذي ليس لي ولا أملكه، ولا لغيري ولم يعادني، لكنه صديق مؤرق، يقتطع الملذات، وينغص عليّ أوقاتي بالألم، وينتظر.. مثلما أنا دائماً أنتظر.. أشعر بقطرات ساخنة على خدي، فيدب في نفسي الحنين، وأبكي على ما حدث.. وما سألاقيه!"

أستيقظ تلك المرة وأفتح عيني على الواقع، أتأخر على ميعاد العمل، أكافح كي أصل، لأحصل في النهاية على عقوبة تأخير مغرية، أجلس لأنتظر انتهاء دوامي، لأسير في الشوارع بخطوات واسعة مسرعة.. إلى أين لا أعلم، إلى المنزل غالباً.. أعود إلى المنزل، أعد طعامي أختار ما أنا معتاد عليه، لا أغامر بوقت الطعام، ثم أنزوي إلى سريري كالعادة.. أنام لاكثر من عشر ساعات، لأستيقظ مرة أخرى على دوام عملي.

بالأمس كانت المرة الأولى التي أُفكر فيها بانعدام المعنى، انعدام يشمل كل شيء، يبدأ بكل تلك التفاصيل وينتهي إلى مجموعها، ليس بإمكاني أن أصف بدقة شعوري حيال ذلك، فأي وصف هو في النهاية محاولة للتوضيح، وأي محاولة للوضوح تجربة فاشلة لخلق معنى..!
حينما لا أكون على عجلة من أمري، حينما لا يزعج قلبي أي احساس، حينما ألتقي بغتة بنفسي في الطرقات، تراودني عنها وتدنيني منها، في تلك الأوقات الضئيلة التي لا يؤرقني فيها شئ أشعر بالحنين الجارف وأشعر بتآكل كل شئ داخلي من خلال ذلك الجموح، أشعر بتنامي احساسي بافتقاد الحاضر، وافتقاد الغضب والحماس والطموح، والفرح، والأمان.
لا يمكن إجمال ما أريد قوله إلا باليأس، أعاني من اليأس، وتقطع السُبل. أحاول أن أتمسك بصورة من الماضي، لكنها تتخلى عني ككل الأشياء، أحن إليها بشدة، أعلم أنها صورة لكني أعلم كذلك أني لا أحن إلى شئ قدر ما أحن إلى هذه الصورة.
أين تضيع سنوات الانتظار؟ لا أعلم!
 لم يشفع لي شئ أمام هذا اليأس، لا القراءة ولا الكتابة ولا المحاولات الحثيثة لإدراك اللحظة الراهنة، حتى إيماني المتخاذل دائمًا الذي ظللت أحفظه من كل سوء، وأُنميه وأسقيه من بنات أفكاري، انتهز فرصة ضعفي وهرب!