الأحد، 7 يناير 2018

على الحافة

الفقد تجربة قاسية، لا يمكن تجاوزها إلا بفقد أكبر، والتقويض ليس لك عليه طاقة، لن تشفيك موجات الاستهلاك، والأحاديث التفاهة، ولن تطهرك الآلام، ولن تبعدك لحظات التخدير الصافية. تدور السماء كما يدور رأسك، بلا غاية، لكنها لا تدرِك، وأنت مصاب بالدوار لا يستطيع أن يتوقف. روحٌ تسكن في الجسد. تتجلى فيصيبه الوهن. وتتبخر فيأكل بعضه بعضًا. ويصبح فؤادك فارغًا بلا رابط. يجعله من المؤمنين، والكون ملهاة كبيرة والحياة عجلة ندور فيها. يديرها موت. تزداد سرعتها حتى ننتشي. ويُختَطَفُ أحدُنا فلا يلاحظ الآخرون. واذا انتهت اللعبة كانت المأساة. والويل كل الويل للمشاهد من أعلى، للذي يعي تلك الصورة، فلا هو قادر على النجاة، ولا هو يستطيع التلذذ.

لا أظن أني سأستمر حتى الثلاثين، سينتهي كل شيء قبل ذلك، سأموت بلا إرادة خاصة، وستنتظم كل تلك العثرات مرة اخرى وتلتئم لتشكل حياة أخرى لا أسهر على إيجادها، ولا أجلس منها مجلس المراقب.

ستنتهي حياتي تلقائيًا. وربما أشارك في ذلك بشيء من إرادة واهنة. تحارب حتى الرمق الأخير في مطاردة أفكارك، وينزوي هو في جوانب قابلة أن تكون متنفثه الخاص، وتستجدين أنتِ العديد والعديد من الأشياء والأشخاص والمعاني لكنها لم تشفع لتآكل ذاتِكِ الواهنة اليومي. ولم تجد أنتَ ما يمكن أن تتشبث به في سبيل الخلاص.
عشت مؤخرًا حياةً فوق طاقة احتمالي، كآبتي زيفت كل الحقائق وكلما أمسكت بحبل، تخيلته فخًا، فاتحلل منه.

سيحين وقت الراحة قريبًا، صمتٌ أبديٌّ سيحل محل الوجود الضخم المعذِب، وسأنعم لأول مرة بحالة ذاتية تفرض نفسها على الوجود، تستمر تلك الحياة الفاضحة في الحركة، تدور الأفلاك والسيارات، وتشرق الشمس وتغرب يوميًا، سيستمر الجميع في التنفس لن يختلف شيء، سيذهب الناس إلى أعمالهم في الصباح، ويأوون إلى الفراش في الليل، ويتحدثون أحاديث جانبية، وجدتها طوال حياتي سخيفة، ولم أتأقلم معها أبدًا، سيستمر الأصدقاء في التجمع، للحديث، لللعب، للمزاح، للتدخين، للغناء، للعبث.

بينما أنا أنعم بالثبات واللا حركة. سيغيب العالم عني كما سأغيب عنه. لن أراقب تلك السرعة. ولن أحاول قياس التغير مرة أخرى. سيجري النهر كما أراد. ولن أُضطر إلى نزوله. حيث سأتعفن في مكاني بسلام. ستأكل الديدان جسدي كما أكلت روحي الأيامُ. وستدثرني الرمال كما دثرت حياتي الكآبةُ.

آن لجسد هزيل حافظت على سلامته طوال الواحد والعشرين ربيعًا أن يرتاح. جسد لم أؤذيه قاصدًا من قبل، ولم أتعنت في اصلاحه أو مداواته، حافظت على رئتيّه ورديتين كما خلقتا، ولم يتسلل إليهما شيء من التدخين، ولم يصل إلى الكبد شيء من الخمر، لم يتورط قلبه في علاقات مستنزِفة، ولم يستَنزِف أحدًا يومًا ما، حافظت على صفوه قدر استطاعتي. ولكن -رغم ذلك- غرقت الروح في بحر غامض ليس له قرار، بينما ظللت أنوح عليها كل يوم. وأستجديها في كل موقف أنّت له يومًا. أو ربطت بينهما علاقة. كانت تستجيب وترحل سريعًا بلا أثر. حتى اختفت نهائًيا.. دفنتها الأيام. كما سأدفن يومًا ما. ماتت غرقًا بينما سأموت اليوم من العطش.

الموتُ هزيلٌ، يقتات من حكايا الخوف، ويتفرعن من حب الحياة، لكنه ضعيف، وواهن، وغير حقيقي، وغير مفعم بالسوداوية. ها أنذا سوف أقفز. أرى في عينيه الذعر، وأعلم أن في عيني شيء من اللامبالاة.  هو وجه العملة الآخر للحياة. الغياب في مقابل الحضور، الشعور في مقابل البلادة، لكنهما من معدن واحد عابث. لم يُصك كما عليه أن يفعل.

تغدو الحياة على الحافة ممكنة ما بين الوجود والعدم، يصبح الاختيار حينها ممكنا بين الحياة بتعابيرها المختلفة. والموت بكل ما يحمله من أجوبة وجودية، ومخاوف لا نهاية لها في الحياة. القفز أو العودة. قبلة الحياة أو حتمية الموت.
في عالمي لا توجد حواف!  هناك فقط أفق شاسع، يتآكل الضباب فيه كاشفًا عن صمت هائل.


صورة جثة أحد الأشخاص قبل دفنها، وكانت تلك عادة منتشرة في العصر الفيكتوري 


حينما أختار موتي لا أموت
لا يموت المرء إلا مقسرا
حينما يختارني موت أموت
من يختار لي أن أجبرا
-أمل دنقل-