الجمعة، 6 أبريل 2018

كلمتين





اليوم نظرت إلى السماء، بينما كنت عائدًا إلى البيت ليلًا. أمعنت فيها النظر متناسيًا ما بيننا من خصومة، وبطريقة ما جذبت النجوم انتباهي القديم، وعاد الوصال مرة أخرى، وذهب الخصام في تلك اللحظة، بعيدًا كأنه لم يحدث أبدًا، صفاء بلا سحب، ونجوم متألقة رغم زحام المدينة بالأضواء، صوت معذب يهتف في الأعماق، يتشبث بالأفق، ويلقي برحله إلى سماء أوسع من المأساة، تقترب هي وتحتضن ذاك اليأس وتقول لا بأس!

خاصمت السماء أيامًا طويلة، ولم أجد من رفيق إلا ظلي، وأقدام متسارعة تتصارع في طريق طويل، تعتصر الأشياء ذاتي، وأجدني في المسير وحيدا بلا سلوى. تتفتت المعاني على قارعة الطريق، وتتفوض المظاهر على جنباته، بينما تلهو السماء بأحاديث ذات صدى طويل بلا قيمة.

وها هي تتجلى في نفسي، فانظر لها وأمعن النظر، تلك النجوم تتشكل -رغم الأنف- بطبيعة خاصة لا ترتبط بالأبراج، كوجود لم يكشف عن ماهيته بعد، وكبذور تبحث عن السقية المناسبة، تتخذ من نفسها خبرًا أنتِ مبتدؤه، وتشبيها أنتِ منتهاه.

وما أنكرته بالأمس في الظل يخاصمني اليوم في السماء، ويتسلل بخفة، ليتمكن في ركن ركين من النفس، ليرسم من وجهك أجمل الصور.

كل عين تعشق حليوة
وانت حلوة في كل عين
يا حبيبتي .. قلبي عاشق
واسمحيلي بكلمتين


في عالم تحكمه اللحظة، وتحدده الرغبة، لا أجد طريقي، أسير متمهلًا قلقًا، لا ألوي على شيء، ولا أفكر إلا في خطوتي المضطربة القادمة التي ستصبح فارغة فيما بعد. في عالم سائل بلا مركز، خفيف بلا قيمة، تطفو الأشياء فيه كلما كانت خفيفة، لكنها للأسف تتفتت مع الوقت كلما طافت، فلا معنى للنجاة أو الغرق إلا في إدراك اللحظة، أبحث عبثًا عن ثقل، وأراقب السيولة بيأس. في عالم لا يؤمن إلا باللحظة.. أتلو عليك قصيدتي عسى ان أُمسك بتلابيب ذاك الشعور، ان أقتبس شيئًا من الوحي، أن احفظ النشوى في ركن ركين.
كلمتين يا حبيبتي يمكن 
هما آخر كلمتين 
حد ضامن يمشي آمن
أو مآمن يمشي فين
*******************

للجمال تلقى الشباك لا للملاحة، وللمعاني تسن الأقلام لا للفصاحة. إذا سُرَّ المرء بالمشاهدة فلا تسعده المجالسة، وإذا أعجزه البيان مرة، تخذله السخافة. والكلام المكرر مرات. فالخارج لا يكفي لامتلاك النفس وأسر الروح. إذ كان السر دائما في الذات. في الجوهر. في هبة التأويل. فيما يضيفه الآخر من معنى رائق، أو هامش لم يسبق إليه أحد.
الجمال كفكرة ذاتية في بحثها عن الاطلاق. تفلت من الجسد. وتبحث عن الأسمى. تراوغ التحديد. وتراود القلب الحزين. كأمل لا ينتهي بالنشوى.
فكم من امرأة تحسب آية في جمالها وفي تناسبها وملاحتها ومع ذلك غير جميلة .. اذا سُر امرؤ بمشاهدتها مرة او مرات فهو لا يتمنى مجالستها ويمل كلامها وسخافتها بعد ان يعرفها قليلا .. اذ يرى أن أحسن ما فيها هو هذا الشيء الخارجي الذي لا يكفي لامتلاك القلوب واكتساب الارواح*

شابة يا أم الشعر ليلي
والجبين شق النهار
والعيون شطين أماني
والخدود عسل ونار
واللوالي في ابتسامتك
يحكوا أسرار المحار 

يائس لا أمل من اجتذاب الأرق، متألم لا يسعني التفكير بصفاء، صبور بلا شيء، أستجدي الأشياء الكاذبة، وأنتظر انقضاء العقارب من دورتتها، لكنها لا تنتهي، كمشقة الطريق الذي امتد امامي، حاملًا الشوك وواهبًا جسدي للتآكل، انتظر الخلاص والاحتراق، وأتطلع إلى الأسمى.
يا اللي ساكنة القصر عالي 
امتى يهنالي المزار 
كلميني يا صبية 
طال عليا الانتظار
***************
كلمتين يا حبيبتي يمكن 
هما آخر كلمتين 
حد ضامن يمشي آمن 
أو مآمن يمشي فين

كصنم ابراهيم -عليه السلام- الأكبر المتكسر، لا يزال الحب صنمًا اخيرًا شامخًا في سماء المُثُل، ما بين تخفف من أحمال العصور الوسطى والماهية التي تسبق الوجود، وبين البحث عن حمل في عالم سائل بلا قيمة مركزية يمكن ان يغزِل فيها شرنقته الخاصة، يكفي الحب أحيانًا ليؤسس المعنى الذاتي، والجدوى الشخصية في سياق عالمي يقترب يوميًا من العزلة اكثر. وفي إطار اجتماعي يفرض نفسه ومتطلباته كحد ادنى من السخافة. 
أؤمن بالحب كقفزة ايمانية وجودية كريجاردية، بلا سبب، وبلا تحدد، كحقيقة صوفية لا تنتمي إلى العالم الحسي الذي أنتمي إليه، حقيقة حدسية تُلقى، ولا تجتذب. لا يمنعها إلا انتظار تَمَهُد الطريق، ونقاء نفس السالك ورغبته الشديدة في الاحتراق، والتكشف في المدارج المُهلكة.
آدي كلمة من عذابي 
قلتهالك باقي كلمة 
من حنيني صنتهالك 
في الضلوع من دنيا ظالمة 
كنت خايف يلمحوها 
يقتلوها في سكة ضلمة 

في عالمي لا توجد أمواج. هناك فقط بحر ميت بلا تيار. لا يظهر له شاطئ. أعاني فيه من الحنين والتوق وأنتظر فيه أملًا يائسًا في الخلاص.أقلب جسدي ناظرًا إلى أسفل، تغمر المياه وجهي، واكتم انفاسي، محاولا الغرق. لكنه لا يأتي. وللدهشة أرى وجهك أمامي باسمة الثغر، مشرقة الوجه. ولا يسعني إلا أن أعود ميمما وجهي إلى السماء لأمعن النظر في النجوم الساحرة. وأتلذذ بالهدوء  والسكينة وتلك السعادة الغامرة في حضرتك.
شقشقت والنور بشاير 
زهرة الصبار يا سلمى. 

لم آت لألقي عليك سلاما، وإنما جئت لألقي عليك كلمتي. وأتلو قصيدتي. وأعيد ترتيب الوجود. 
فلا ترحلي. وتعالي إليّ. وأمنحي روحي السلام. 
أبقى ضامن أمشي آمن 
أبقى عارف أمشي فين **




*الفقرة مقتبسة من سوانح فتاة لمي زيادة/ طبعة دار المحروسة 2016
** الكلمات المائلة من قصيدة كلمتين لمصر لأحمد فؤاد نجم مع تعديل طفيف