الرغبة في الكمال صفة متأصلة في النفس الإنسانية، لا يمكن إنكار ذلك أو التغاضي عنه، ربما تظهر بشكل جلي في رغبته الصريحة في الدوام، والخلود، والنظرة المتفائلة للمستقبل، وربما بدت تلك الرغبة بشكل خفي في أفعاله التي ينبني عليها مصيره الكلي الذي يخرج عن ذاته الواقعية، تلك الأفعال التي يحملها جسده، ولا تنفصل عن خلايا جلده.
في بعض الأحيان يمكن تفسير قرارات الإنسان الكبرى من منظور بحثه عن الاكتمال. رغبته في الحياة الدائمة، أو في الذرية الممتدة، أو سعيه الحثيث نحو بناء شيء واقعي يرمز إلى حياته الفانية، بشكل عفويٍ، أو ثوريٍ، أو كملحوظة يتركها في نهاية مجلدات طويلة قد تمكث في أحد رفوف مكتبة قديمة يأكل عليها الزمن ويشرب، وتمتد أجيال النمل على دفتيها، وتعمّر كثبان الحشرات.. أليس هذا أيضًا اكتمالًا من نوع آخر؟ّ!.
أُسائل نفسي في بعض أوقات الصفو عن ماهية الكمال في الحياة، هل هو الخلود مع كل تلك الشوائب التي تضيفها الأيام إلى الحياة الذاتية، أم أن الاكتمال هو الغياب، والتعالي عن ذلك الواقع المحيط، بداية من التفاصيل الصغيرة كاصطدام الأصبع الصغير من القدم بطرف دولاب كبير، وصولًا إلى محيط المجال العام، والانخراط في الصراعات التي ولدنا معها، وسنموت ولازالت هذه القضايا قائمة. هل الكمال أن يصبح الإنسان في برج عاجي، يراقب الأشياء غائبًا عن الفعل المباشر، أم الكمال بالانخراط في الواقع بكل ما يحمله من حبور وآلام؟ّ! وهل من الممكن أن نعمم المثال على الحياة نفسها! أيمكن أن نُجيب عن رغبة الكمال بالأبراج العاجية، أو بمعاصرة الحياة نفسها؟!
توقفت عن الكتابة فترة طويلة جدًا، وأعني بالكتابة هذه الكتابة التي تمس الروح، وتتغلغل أفكارها في الأعماق، أسمع في معانيها، وأساليبها صوتي الخاص، أحيانًا أسمع صوتي كقرع أجراس، ذات إيقاع متزن، وأحيانًا أسمع صوتي كموج البحر، ينساب بإيقاع منسجم غير ميكانيكي. تعددت أسباب التوقف التي كنت أبرر بها موقفي لصوتي الخاص، أستغرب أوقاتً حينما أحاول حصرها فلا أتذكر إلا النذر القليل منها، أو ربما سببًا واحدًا، يختلف باختلاف الزمان والمكان، أتخيلها تنحل إلى أقانيم يراعي مقالها طبيعة مقام المرحلة، ولكن حسب ذاكرة السمك التي أحملها فالأمر كله يدور حول البحث عن النص المكتمل.
أنا لا أكتب إلا نصوصًا مكتملة في ذهني، أتلوها بصوتي الداخلي، ويكتمل نموها داخلي حتى تخرج، أتذكر كل تلك النصوص التي كتبتها بروحي، لا زالت تؤثر في وجداني حتى هذه اللحظة، رغم ما يعتورها من أخطاء بلاغية او فنية، وكثيرًا فلسفية. لا زلت أسمع صداها في نفسي أحيانًا، هذه النصوص التي أعتبرها نموذجية ذاتيًا من ناحية الخلق، تعيد إلى نفسي الكثير من الاعتبارات التي أخذتها كمسلَّمة في بداية التعاطي مع الكتابة. وارتدت إلىّ كسؤال شديد البساطة شديد السذاجة، رغم عمق أثره، ومحوريته في أي عملية خلق إبداعي. لماذا نكتب؟ّ!
أؤمن أن البسيط يخلق المعقد، والمعقد ما هو إلا مجموعة من الأشياء البسيطة تتآلف بشكل مكثف، الحقيقة شيء بسيط بسيط للغاية، ولكنه منثور ومتشظي إلى أفكار، يفوق عددها عدد الموجودات الواقعية تقريبًا، في وقت ما كانت الكتابة تعبر عن رغبة حثيثة في الاكتشاف، عن ماهية الشيء الخفي في دواخلنا، عن ذلك الصوت النقي الذي يريد أن يطرح نفسه بقوة على الموجودات، ويلقي بنفسه على العالم قولًا ثقيلًا، سماع الصوت الخاص، وترك المساحة إلى الذات الخالقة للتعبير عن نفسها، ربما تكون هذه هي الفكرة الأولى التي انطلقت من خلالها إلى عالم الكتابة، أكتب كثيرًا أحلامي حين أستيقظ، تعليقاتي الشخصية على الناس، والمجتمع، والكتب، وأراقب تطوري الذاتي من خلال مذكرات لا زلت أحتفظ بها حتى الآن، لا أخجل ابدًا من الماضي، فالتصالح معه هو طريق الحاضر، او هكذا أؤمن بشكل بسيط، لا أحمل في نفسي كراهيةً أو حبًا لشيء من روائح الماضي، لا أشعر بالحنين أو التوق إلى الاختفاء. كنت في تلك المرحلة مغرمًا بقراءة العصر الوسيط، عصر التدوين الأكبر، الكتابة بكل شكل وعن كل شيء تقريبًا، هذا الوقت الذي يسيطر فيه الإنسان على الوجود من حوله ويفرض سلطانه الفكري على الوجود بأكمله. هذا الوقت الذي كنت فيه سعيدًا، أو قابلًا للسعادة بشكل ما.
عندما هبط زرادشت من صومعته في الجبل، رغبة في مشاركة الآخرين أفراحه الصوفية، التي توصل إليها في عزلته، قابله أحد الفلاحين، فهتف فيه أن "الإله قد مات .. ونحن الذين قتلناه"
في كل لحظة يولد تاريخ جديد، حتى الإدراك في ذاته ميلاد للتاريخ، وتجسيد لانبثاق الماضي في إطار الحاضر، اختل عالمي المتماسك من هتاف نيتشه، اختل بشكل كلي، فالعزاء الوحيد في ظل هذا العالم أصبح مهددًا بالشك، وربما سحْب بساط اليقين من تحت أرجلي لا يكون داعيًا لليأس، ولكن أي مذاق يُمكن فهمه من هذا الاختلال نفسه؟!.
هذا الاختلال ربما هو ما قتلني قبل أن يكتمل مولد الأفراح، أو أن الأفراح والإشراق لم تكن مصيري من البداية، ولكن بأي حق يرتفع سيف الحقيقة على سيف السعادة، ما هي الحقيقة إن لم تنطق من خلالي؟! مع مرور الوقت أصبحت كتاباتي قليلة، وحضوري أقل، وصوتي يخفت يوم بعد يوم، أعاني أحيانًا من انفصام الكتابة، أكتب في عملي آلاف الكلمات في الجلسة الواحدة ولكنها كلمات ميكانيكية تحليلية لا تمت إلى الروح بصلة، وأعاني من الفقدان في الجانب الآخر من الكتابة.
الانهيار هو ما يستحق الكتابة عنه، يُكتَب كثيرًا عن تحليق إيكاروس المخيف نحو الشمس، وأكثر عن اصطدامه المدوي بالأرض، بعضهم جعل الملائكة تحمله في النهاية، وبعضهم جعله يسقط وكأن شيئًا لم يحدث، الأسطورة تفتح المجال لكل هذه التكهنات.
ولكن ما بال إيكاروس أثناء السقوط؟!
أعلم أن الأمر لم يستغرق سوى لحظات، ولكن ما هي أفكاره في تلك اللحظة، أظل واثقًا في قوة الشمس التي أحرقت أجنحته، أم أصبح قانطًا من مصيره المؤسف؟!
أنا أكتب لكي أمثل تلك اللحظة، لحظة الانهيار والتفكك، لا اعلم هل يمكن الاعتراف بأني أحب التفكيك، أم أنني لا أستطيع أن أُكن شعورًا لأي شيء دون أن أفككه، ساخرًا أمضي في طريقي، ملقيًا كل شيء وراء الظهر.
جربت الحب مرةً وآمنت بأنه صنم إبراهيم الذي ظل عالقًا في سماء المثل، آمنت بالتجربة الذاتية، فإن لم يكن هناك مفر من غياب المعنى الشامل، فلنصنعه بأيدينا، ألسنا من قتل الإله مرةً؟! ولكني كمن ينتظر حضور مصيره، لا استطيع صرف بصري عن المجهول القادم في الأمام، عن الغاية من كل هذه التفاصيل. يومًا كنا نتحدث عن رمزية الحياة كيف نرى الحياة في صورة ساخرة ومُحكَمَة، فقلت أني أنتظر، كأنّي أجلس في عيادة طبيب في الخارج وتصلني أصوات متوحشة من الداخل، وأحيانًا ضحكات، ولا أدري كيف هو شكل هذا الطبيب، وبدلًا من الهروب، أنتظر وأنتظر وأنتظر، وأثناء انتظاري، أفكر تارة، وأحب أخرى، وأكتب قليلًا، وأقرأ أكثر، وأتململ وأتحمس، وانزوي وأُشرق.
فالحياة هي مقاومة الانتظار.. وفقط.