الثلاثاء، 23 يونيو 2020

بحثًا عن نص مكتمل

الرغبة في الكمال صفة متأصلة في النفس الإنسانية، لا يمكن إنكار ذلك أو التغاضي عنه، ربما تظهر بشكل جلي في رغبته الصريحة في الدوام، والخلود، والنظرة المتفائلة للمستقبل، وربما بدت تلك الرغبة بشكل خفي في أفعاله التي ينبني عليها مصيره الكلي الذي يخرج عن ذاته الواقعية، تلك الأفعال التي يحملها جسده، ولا تنفصل عن خلايا جلده.
في بعض الأحيان يمكن تفسير قرارات الإنسان الكبرى من منظور بحثه عن الاكتمال. رغبته في الحياة الدائمة، أو في الذرية الممتدة، أو سعيه الحثيث نحو بناء شيء واقعي يرمز إلى حياته الفانية، بشكل عفويٍ، أو ثوريٍ، أو كملحوظة يتركها في نهاية مجلدات طويلة قد تمكث في أحد رفوف مكتبة قديمة يأكل عليها الزمن ويشرب، وتمتد أجيال النمل على دفتيها، وتعمّر كثبان الحشرات.. أليس هذا أيضًا اكتمالًا من نوع آخر؟ّ!.
أُسائل نفسي في بعض أوقات الصفو عن ماهية الكمال في الحياة، هل هو الخلود مع كل تلك الشوائب التي تضيفها الأيام إلى الحياة الذاتية، أم أن الاكتمال هو الغياب، والتعالي عن ذلك الواقع المحيط، بداية من التفاصيل الصغيرة كاصطدام الأصبع الصغير من القدم بطرف دولاب كبير، وصولًا إلى محيط المجال العام، والانخراط في الصراعات التي ولدنا معها، وسنموت ولازالت هذه القضايا قائمة. هل الكمال أن يصبح الإنسان في برج عاجي، يراقب الأشياء غائبًا عن الفعل المباشر، أم الكمال بالانخراط في الواقع بكل ما يحمله من حبور وآلام؟ّ! وهل من الممكن أن نعمم المثال على الحياة نفسها! أيمكن أن نُجيب عن رغبة الكمال بالأبراج العاجية، أو بمعاصرة الحياة نفسها؟!




توقفت عن الكتابة فترة طويلة جدًا، وأعني بالكتابة هذه الكتابة التي تمس الروح، وتتغلغل أفكارها في الأعماق، أسمع في معانيها، وأساليبها صوتي الخاص، أحيانًا أسمع صوتي كقرع أجراس، ذات إيقاع متزن، وأحيانًا أسمع صوتي كموج البحر، ينساب بإيقاع منسجم غير ميكانيكي. تعددت أسباب التوقف التي كنت أبرر بها موقفي لصوتي الخاص، أستغرب أوقاتً حينما أحاول حصرها فلا أتذكر إلا النذر القليل منها، أو ربما سببًا واحدًا، يختلف باختلاف الزمان والمكان، أتخيلها تنحل إلى أقانيم يراعي مقالها طبيعة مقام المرحلة، ولكن حسب ذاكرة السمك التي أحملها فالأمر كله يدور حول البحث عن النص المكتمل. 
أنا لا أكتب إلا نصوصًا مكتملة في ذهني، أتلوها بصوتي الداخلي، ويكتمل نموها داخلي حتى تخرج، أتذكر كل تلك النصوص التي كتبتها بروحي، لا زالت تؤثر في وجداني حتى هذه اللحظة، رغم ما يعتورها من أخطاء بلاغية او فنية، وكثيرًا فلسفية. لا زلت أسمع صداها في نفسي أحيانًا، هذه النصوص التي أعتبرها نموذجية ذاتيًا من ناحية الخلق، تعيد إلى نفسي الكثير من الاعتبارات التي أخذتها كمسلَّمة في بداية التعاطي مع الكتابة. وارتدت إلىّ كسؤال شديد البساطة شديد السذاجة، رغم عمق أثره، ومحوريته في أي عملية خلق إبداعي. لماذا نكتب؟ّ!

أؤمن أن البسيط يخلق المعقد، والمعقد ما هو إلا مجموعة من الأشياء البسيطة تتآلف بشكل مكثف، الحقيقة شيء بسيط بسيط للغاية، ولكنه منثور ومتشظي إلى أفكار، يفوق عددها عدد الموجودات الواقعية تقريبًا، في وقت ما كانت الكتابة تعبر عن رغبة حثيثة في الاكتشاف، عن ماهية الشيء الخفي في دواخلنا، عن ذلك الصوت النقي الذي يريد أن يطرح نفسه بقوة على الموجودات، ويلقي بنفسه على العالم قولًا ثقيلًا، سماع الصوت الخاص، وترك المساحة إلى الذات الخالقة للتعبير عن نفسها، ربما تكون هذه هي الفكرة الأولى التي انطلقت من خلالها إلى عالم الكتابة، أكتب كثيرًا أحلامي حين أستيقظ، تعليقاتي الشخصية على الناس، والمجتمع، والكتب، وأراقب تطوري الذاتي من خلال مذكرات لا زلت أحتفظ بها حتى الآن، لا أخجل ابدًا من الماضي، فالتصالح معه هو طريق الحاضر، او هكذا أؤمن بشكل بسيط، لا أحمل في نفسي كراهيةً أو حبًا لشيء من روائح الماضي، لا أشعر بالحنين أو التوق إلى الاختفاء. كنت في تلك المرحلة مغرمًا بقراءة العصر الوسيط، عصر التدوين الأكبر، الكتابة بكل شكل وعن كل شيء تقريبًا، هذا الوقت الذي يسيطر فيه الإنسان على الوجود من حوله ويفرض سلطانه الفكري على الوجود بأكمله. هذا الوقت الذي كنت فيه سعيدًا، أو قابلًا للسعادة بشكل ما.


عندما هبط زرادشت من صومعته في الجبل، رغبة في مشاركة الآخرين أفراحه الصوفية، التي توصل إليها في عزلته، قابله أحد الفلاحين، فهتف فيه أن "الإله قد مات .. ونحن الذين قتلناه"


في كل لحظة يولد تاريخ جديد، حتى الإدراك في ذاته ميلاد للتاريخ، وتجسيد لانبثاق الماضي في إطار الحاضر، اختل عالمي المتماسك من هتاف نيتشه، اختل بشكل كلي، فالعزاء الوحيد في ظل هذا العالم أصبح مهددًا بالشك، وربما سحْب بساط اليقين من تحت أرجلي لا يكون داعيًا لليأس، ولكن أي مذاق يُمكن فهمه من هذا الاختلال نفسه؟!.
هذا الاختلال ربما هو ما قتلني قبل أن يكتمل مولد الأفراح، أو أن الأفراح والإشراق لم تكن مصيري من البداية، ولكن بأي حق يرتفع سيف الحقيقة على سيف السعادة، ما هي الحقيقة إن لم تنطق من خلالي؟! مع مرور الوقت أصبحت كتاباتي قليلة، وحضوري أقل، وصوتي يخفت يوم بعد يوم، أعاني أحيانًا من انفصام الكتابة، أكتب في عملي آلاف الكلمات في الجلسة الواحدة ولكنها كلمات ميكانيكية تحليلية لا تمت إلى الروح بصلة، وأعاني من الفقدان في الجانب الآخر من الكتابة.


الانهيار هو ما يستحق الكتابة عنه، يُكتَب كثيرًا عن تحليق إيكاروس المخيف نحو الشمس، وأكثر عن اصطدامه المدوي بالأرض، بعضهم جعل الملائكة تحمله في النهاية، وبعضهم جعله يسقط وكأن شيئًا لم يحدث، الأسطورة تفتح المجال لكل هذه التكهنات. 
ولكن ما بال إيكاروس أثناء السقوط؟! 

أعلم أن الأمر لم يستغرق سوى لحظات، ولكن ما هي أفكاره في تلك اللحظة، أظل واثقًا في قوة الشمس التي أحرقت أجنحته، أم أصبح قانطًا من مصيره المؤسف؟!

أنا أكتب لكي أمثل تلك اللحظة، لحظة الانهيار والتفكك، لا اعلم هل يمكن الاعتراف بأني أحب التفكيك، أم أنني لا أستطيع أن أُكن شعورًا لأي شيء دون أن أفككه، ساخرًا أمضي في طريقي، ملقيًا كل شيء وراء الظهر.


جربت الحب مرةً وآمنت بأنه صنم إبراهيم الذي ظل عالقًا في سماء المثل، آمنت بالتجربة الذاتية، فإن لم يكن هناك مفر من غياب المعنى الشامل، فلنصنعه بأيدينا، ألسنا من قتل الإله مرةً؟! ولكني كمن ينتظر حضور مصيره، لا استطيع صرف بصري عن المجهول القادم في الأمام، عن الغاية من كل هذه التفاصيل. يومًا كنا نتحدث عن رمزية الحياة كيف نرى الحياة في صورة ساخرة ومُحكَمَة، فقلت أني أنتظر، كأنّي أجلس في عيادة طبيب في الخارج وتصلني أصوات متوحشة من الداخل، وأحيانًا ضحكات، ولا أدري كيف هو شكل هذا الطبيب، وبدلًا من الهروب، أنتظر وأنتظر وأنتظر، وأثناء انتظاري، أفكر تارة، وأحب أخرى، وأكتب قليلًا، وأقرأ أكثر، وأتململ وأتحمس، وانزوي وأُشرق.


فالحياة هي مقاومة الانتظار.. وفقط.



الاثنين، 24 سبتمبر 2018

تعيش وتفتكر

في نهاية عام 2011 فقدنا عمي الأصغر.
 كنا قد خَبِرنا الموت من قبل في العائلة، وفي العمارة، لكنها كانت المرة الأولى التي يتسلل فيها بلا مقدمات، ويختطف الأعز، والأصغر، في أسبوع واحد يعاني فيه من المرض، يتضاعف الأمر في أيام قليلة، يُحجز في المستشفى ويموت بعد ثلاثة أيام. 

أتذكر أحاديثه رغم حداثة سني، أذكر أنه كان الأكثر شبهًا بأبي، حديثه عن الأوضاع، واهتمامه بما يحدث، ومرحه الذي يغلب على الجد عنده، وتأففه من الأمور إذا زادت عن نصابها، وغضبه الفج إذا غضب، هو في ذلك مثل أبي، هما الأكثر شبهًا في الصفات، رغم ابتعادهما في الشكل. 

يحكي لنا أبي أن عمي مصطفى أحضر صندوقًا كبيرًا له كهدية لزواجه من أمي، سَعِد بها أبي غاية الفرح، وشرع في فتحها، وكلما فتح الصندوق، وجد به صندوق آخر أصغر حجمًا، واستمر في فتح الصناديق واحدًا في إثر آخر، حتى وجد صخرة في النهاية. وصارت تلك حكاية يتندرون بها كلما سنحت الفرصة للقاءات عائلية، كانت كثيرة فيما سبق، وأصبحت تقل تحت وطأة الأيام وتسارع الأحداث. 

أذكر أننا في في عام 2000 كنا نقوم بإعادة طلاء المنزل بالكامل، كان لعمي أصدقاء "نقاشيين" أخبر أبي أنه سيحضرهم، ثم توالت الأيام، ولم يحضر أحد، وعلى سبيل الدعابة أمرنا أبي بالهبوط إليه -حيث يسكن عمي في الدور الأرضي، بينما نسكن نحن في الدور الثاني- هاتفين "يا مصطفى يا مصطفى .. أين ناجي يا مصطفى" على نفس لحن الاغنية الشهيرة  -ناجي كان اسم رئيس هؤلاء "النقاشين"-.
وكأن المرح دَيْنٌ يجب قضاءه = )   

كانت هذه هي خبرتي الأولى بالموت، الموت الحقيقي لا الفقد السرمدي، الجسد بلا روح، والإجراءات البيروقراطية، وثلاجات المستشفيات الصدئة، وجسد عمي يستلقي في انتظار الغُسل، حضرتُ الأمرَ، وعرفت الموت عن قرب، كنتُ شاهدًا لا سامعًا، وكنت باكيًا لا منتحبًا. استنشق رائحة الكافور كلما تذكرت الموت، الكفن الأبيض، اللفة من الأعلى والأسفل، والغطاء البنفسجي ، الذي يغطي كل ميت قريب إلى القلب. 

حضرت السيارة وركبنا ذاهبين إلى المسجد، لتأدية صلاة الجمعة ثم صلاة الجنازة بعدها، أبي بجوار السائق وأنا وعمي تيسير بجوار الجثمان في الخلف. ربما أكون قد شاهدت بكاء واحد من أعمامي في السابق، لكن هذه اللحظة لا تكاد تُمحى من ذاكرتي، عمي تيسير ينظر إلى الجثمان ويبكي في صمت، ويدعو بخفوت. أذكر تلك اللحظة كأنها البارحة.  

رغم علاقاتنا العائلية القوية، وتشبثنا بأواصر القربى، لم تصل علاقاتنا بأحد خارج نطاق المنزل إلى شيء من الحميمية، نحافظ على مساحة الود البسيطة، أما مساحات الحب القوية فلم تظهر بيننا إلا مؤخرًا ولا تنشأ إلا نادرًا. أما عمي تيسير فربما يكون هو أحب الأعمام إلى قلبي، وأدرك أن فقده فادح على قدر طيبة قلبه وهدوءه ورزانته.  

يسكت وإذا تكلم قال شيئًا ذا قيمة، هادئ الطباع لا يتدخل إلا فيما يعنيه، دَمِث لم أر منه شيئًا شريرًا أبدًا، قريب إلى زوجته وأبنائه، ويعاشر أصدقاءه من المنطقة بالحسنى، بروح بسيطة وقلب سليم، كان الأكثر شبهًا بجدي في شبابه، وكان الأكثر عناية بحديقته بعد وفاته.  

في صغري وحال سفر أبي إلى الخارج، أتذكر طرقاته على الباب، محضرًا لنا لوازم للبيت، وأذكر أنه كان شديد العناية بجنينة جدي، حتى أنه كان يغضب كلما عبثنا بالأشجار، أو أفسدنا شيء من الورود. 

سأذكر عمي تيسير كلما نزلتُ لأصلي الفجر، حيث كان يفتح باب العمارة التي لا يملك مفتاح قفلها إلا أعمامي، ويذهب مبكرًا إلى المسجد قبل الإقامة، حيث ألحقه أنا متأخرًا، بينما يذهب أبي بعد وصولنا إلى مسجد تتأخر إقامته، أذكر أني كنت أحيانًا أرغب في الرجوع مسرعًا، فلا أسير مع عمي إلى البيت حيث يتأخر، خاتمًا صلاته كاملةً، أذكر أيضًا أني كنت حينما أتاخر في الرجوع عن الصلاة أحيانًا، أعود وأجده في الجنينة، يتأمل أو يزيل المخلفات في ساحتها التي أصبحت جرداء مع مرور الزمن. 

سأذكره وألعن كل لحظة فاتت لم أنتهزها للحديث معه. 

رحم الله عماي الأصغرين
مصطفى وتيسير   
20/9/2018

الأحد، 16 سبتمبر 2018

الكتابة والاختيارات وأشياء أخرى



أغلب الوقت لا أستطيع أن أكتب على مرة واحدة، ربما أكتب مقتطعات، مقتطفات، وربما أعد رسمًا بيانيًا لما أريد الكتابة عنه، لدي العشرات والعشرات من المسودات التي بإمكانها أن تكون نصوصًا جيدة، لكن حالة الكتابة نفسها لا أخوض غمارها إلا نادرًا، فضلًا عن ندرة النشر نفسه،  حتى الآن لا أعلم ما يمنعني من ذلك، أو ما يدفعني لاتخاذ هذه الإجراءات، هذا جعلني أعيد ترتيب الأمور في عقلي، دفعني للبحث في أساس الشخصية والتحليل بدرجة كبيرة، حاوت كثيرًا أن أقوم بتغيير ذلك، ولكن لم تلاقي محاولاتي أي نجاح، لذلك أميل الآن لتقبل تلك الفكرة وتحليلها والتعايش مع أفضل إمكانية لها. 

الاختيارات دائمًا ما تباغتني، دائمًا ما أختار، ثم أدرك أن اختياري لم يكن، بدرجة كبيرة من الصحة، اللحظات التي يجب أن أختار فيها بسرعة تكون عسيرة للغاية، أجلس في مطعم مع صديقتي، فاحتاس مع الاختيارات المتعددة، أذهب لتجربة ملابس جديدة فاحتاس في الاختيار، في معظم الأوقات أحاول أن أستعين بصديق، في تلك الاختيارات الصغيرة، ربما لا أتبع اختياره لكني أصبح قريبًا منه، فضلًا أني أخفف من حدة القرار، بأنه أمر بسيط هذا مجرد طعام، هذا مجرد لباس.. وفقط. 

تعلمت مع السنوات أن هذا جزء من طبعي، عقلي لا يعطي قراره بشكل سريع، عليه أن يدرس الموقف بشيء من الهدوء، وهو ما لا يتفق مع العالم المتسارع، من حوله،  لذلك أطوّر دائمًا استراتيجية أخذ برهة من الوقت قبل الإجابة، وربما آخذ بضع أيام في قرارات قد تتعلق بالعمل، وتؤثر بدرجة كبيرة بمستقبلي القريب أو البعيد. 

لم يكن الأمر مخصصًا لعقلي فقط، ربما العاطفة أيضًا، أتخيل أحيانًا، أني لن أبكي أو أحزن إذا فقدت عزيزًا، تأتي هذه خيالات، وربما تتمثل في أشخاص محددة، لكن بالتجربة هذا مخالف للواقع، غير أن الحزن نفسه يتأخر، إدراك فداحة الأمر، أدركه بعد وقت ربما بعد أن تبرد الإحساسات في القلوب المتوهجة، أتذكر أني مررت بتبعيات السجن بقدر كبير في عام 2016 أي بعد عامين تقريبًا من الحدث نفسه، كنت حزين لذلك، أجد نفسي غير طبيعي، او بي شيء من الكآبة، لكن مع الوقت أدرك انا هذا هو أنا، ليس نسخة معدلة او نسخة مريضة، هذه هي النسخة الأصالالية مني، وعلي أن أتعايش معها.   


نادرًا ما كنت أكتب عن نفسي، والأكثر ندرة أن أُطلع شخصًا على تفاصيل كتاباتي، أتذكر أن لدي دفتر كبير، دونت فيه معظم أحداث عام 2015، وللغرابة كان واحدًا من أسوأ اعوامي، لا أعلم هل هو كذلك فعلًا، أم أنه أصبح كذلك لأنني قمت بتدوينه، خَبِرتُ فيه الحزن والفقد والاكتئاب، ربما أكثر من تبعيات السجن نفسه، كانت المرة الأولى التي أقرر أن أدون فيها مذكراتي، لأن من طبعي أن أنسى التفاصيل، أو لا تتوهج في قلبي كما أرغب عند استعادتها، ومن نهاية العامتركت التدوين، ويومًا بعد يوم بدأت في الابتعاد عن الكتابة. 

أظن أن الكتابة درب من محاولة الفهم، في خضم السرعة التي نتعايش بها، نحن نختبر مشاعر متعددة، ومتقلبة وربما متضاربة، ثم نتجاوز بسرعة، الكتابة ربما تصبح درجة من درجات الإمساك بالذات -ليست استعادة ابتذالية او تحقيق استهلاكي- هذه القراءة للذات وتطورها، أظن أنها الشيء الجوهري في عملية التدوين.  

أعود مرة أخرى لدفتر 2015 في بداية هذه السنة، أقرأه كاملًا، -كما قلت سابقًا- من معاناتي الفقد في هذا العام، كنت أتصور أن هذا هو السبب الجوهري للحالة السيئة التي ظلت تلازمني طويلًا، ولكن بالعودة للدفتر وجدت أن قبل حدوث كل هذه المشكلات الكبيرة كانت أفكاري سلبية، ومتشائمة بدرجة كبيرة، هذا الاكتشاف نفسه كان مثير للكآبة في حينها باعتبار ان سبب ما أعاني منه أصبح مجهولًا، لكن بعدها أصبح الأمر واقعيا أكثر، وغير مزيف. هذه الاستعادة انقذتني.. أقول هذا ربما وانا أدرك الآن أن وضعي الحالي النفسي والصحي أصبح أكثر نضجًا، وأقل تقلبًا. 

تلك الحالة من المكاشفة. أظن أنها خطوة أولى للفهم والتحليل، بشكل عام، وأعتقد أن أخصائيي النفس، يتوجهون إلى المكاشفات في البداية قبل ان يبدأوا في العلاج الذي يميل في أحوال كثيرة للتحليل، وتفكيك الذاكرة، وتخيلها للأمور، وأحكام العقل.  
ما الذي يفعله الأطباء غير جعلنا أكثر نضجًا؟! نواكب الواقع بما هو واقع، ولا نفقد انسانيتنا في المحيط. 

أكتب الآن ولا أعلم هل تستمر الكتابة على هذا المنوال، لكن أظن أني اريد لها الاستمرار، أكتب عن نفسي بلا ارتباك الآن، وربما للمرة الأولى، لأنها المرة الأولى التي لا أشعر بقدر كبير من الخجل يمنعني من البوح، وربما التباكي على ما يفوت، والاعتزاز بما مَلَكت.  

الجمعة، 6 أبريل 2018

كلمتين





اليوم نظرت إلى السماء، بينما كنت عائدًا إلى البيت ليلًا. أمعنت فيها النظر متناسيًا ما بيننا من خصومة، وبطريقة ما جذبت النجوم انتباهي القديم، وعاد الوصال مرة أخرى، وذهب الخصام في تلك اللحظة، بعيدًا كأنه لم يحدث أبدًا، صفاء بلا سحب، ونجوم متألقة رغم زحام المدينة بالأضواء، صوت معذب يهتف في الأعماق، يتشبث بالأفق، ويلقي برحله إلى سماء أوسع من المأساة، تقترب هي وتحتضن ذاك اليأس وتقول لا بأس!

خاصمت السماء أيامًا طويلة، ولم أجد من رفيق إلا ظلي، وأقدام متسارعة تتصارع في طريق طويل، تعتصر الأشياء ذاتي، وأجدني في المسير وحيدا بلا سلوى. تتفتت المعاني على قارعة الطريق، وتتفوض المظاهر على جنباته، بينما تلهو السماء بأحاديث ذات صدى طويل بلا قيمة.

وها هي تتجلى في نفسي، فانظر لها وأمعن النظر، تلك النجوم تتشكل -رغم الأنف- بطبيعة خاصة لا ترتبط بالأبراج، كوجود لم يكشف عن ماهيته بعد، وكبذور تبحث عن السقية المناسبة، تتخذ من نفسها خبرًا أنتِ مبتدؤه، وتشبيها أنتِ منتهاه.

وما أنكرته بالأمس في الظل يخاصمني اليوم في السماء، ويتسلل بخفة، ليتمكن في ركن ركين من النفس، ليرسم من وجهك أجمل الصور.

كل عين تعشق حليوة
وانت حلوة في كل عين
يا حبيبتي .. قلبي عاشق
واسمحيلي بكلمتين


في عالم تحكمه اللحظة، وتحدده الرغبة، لا أجد طريقي، أسير متمهلًا قلقًا، لا ألوي على شيء، ولا أفكر إلا في خطوتي المضطربة القادمة التي ستصبح فارغة فيما بعد. في عالم سائل بلا مركز، خفيف بلا قيمة، تطفو الأشياء فيه كلما كانت خفيفة، لكنها للأسف تتفتت مع الوقت كلما طافت، فلا معنى للنجاة أو الغرق إلا في إدراك اللحظة، أبحث عبثًا عن ثقل، وأراقب السيولة بيأس. في عالم لا يؤمن إلا باللحظة.. أتلو عليك قصيدتي عسى ان أُمسك بتلابيب ذاك الشعور، ان أقتبس شيئًا من الوحي، أن احفظ النشوى في ركن ركين.
كلمتين يا حبيبتي يمكن 
هما آخر كلمتين 
حد ضامن يمشي آمن
أو مآمن يمشي فين
*******************

للجمال تلقى الشباك لا للملاحة، وللمعاني تسن الأقلام لا للفصاحة. إذا سُرَّ المرء بالمشاهدة فلا تسعده المجالسة، وإذا أعجزه البيان مرة، تخذله السخافة. والكلام المكرر مرات. فالخارج لا يكفي لامتلاك النفس وأسر الروح. إذ كان السر دائما في الذات. في الجوهر. في هبة التأويل. فيما يضيفه الآخر من معنى رائق، أو هامش لم يسبق إليه أحد.
الجمال كفكرة ذاتية في بحثها عن الاطلاق. تفلت من الجسد. وتبحث عن الأسمى. تراوغ التحديد. وتراود القلب الحزين. كأمل لا ينتهي بالنشوى.
فكم من امرأة تحسب آية في جمالها وفي تناسبها وملاحتها ومع ذلك غير جميلة .. اذا سُر امرؤ بمشاهدتها مرة او مرات فهو لا يتمنى مجالستها ويمل كلامها وسخافتها بعد ان يعرفها قليلا .. اذ يرى أن أحسن ما فيها هو هذا الشيء الخارجي الذي لا يكفي لامتلاك القلوب واكتساب الارواح*

شابة يا أم الشعر ليلي
والجبين شق النهار
والعيون شطين أماني
والخدود عسل ونار
واللوالي في ابتسامتك
يحكوا أسرار المحار 

يائس لا أمل من اجتذاب الأرق، متألم لا يسعني التفكير بصفاء، صبور بلا شيء، أستجدي الأشياء الكاذبة، وأنتظر انقضاء العقارب من دورتتها، لكنها لا تنتهي، كمشقة الطريق الذي امتد امامي، حاملًا الشوك وواهبًا جسدي للتآكل، انتظر الخلاص والاحتراق، وأتطلع إلى الأسمى.
يا اللي ساكنة القصر عالي 
امتى يهنالي المزار 
كلميني يا صبية 
طال عليا الانتظار
***************
كلمتين يا حبيبتي يمكن 
هما آخر كلمتين 
حد ضامن يمشي آمن 
أو مآمن يمشي فين

كصنم ابراهيم -عليه السلام- الأكبر المتكسر، لا يزال الحب صنمًا اخيرًا شامخًا في سماء المُثُل، ما بين تخفف من أحمال العصور الوسطى والماهية التي تسبق الوجود، وبين البحث عن حمل في عالم سائل بلا قيمة مركزية يمكن ان يغزِل فيها شرنقته الخاصة، يكفي الحب أحيانًا ليؤسس المعنى الذاتي، والجدوى الشخصية في سياق عالمي يقترب يوميًا من العزلة اكثر. وفي إطار اجتماعي يفرض نفسه ومتطلباته كحد ادنى من السخافة. 
أؤمن بالحب كقفزة ايمانية وجودية كريجاردية، بلا سبب، وبلا تحدد، كحقيقة صوفية لا تنتمي إلى العالم الحسي الذي أنتمي إليه، حقيقة حدسية تُلقى، ولا تجتذب. لا يمنعها إلا انتظار تَمَهُد الطريق، ونقاء نفس السالك ورغبته الشديدة في الاحتراق، والتكشف في المدارج المُهلكة.
آدي كلمة من عذابي 
قلتهالك باقي كلمة 
من حنيني صنتهالك 
في الضلوع من دنيا ظالمة 
كنت خايف يلمحوها 
يقتلوها في سكة ضلمة 

في عالمي لا توجد أمواج. هناك فقط بحر ميت بلا تيار. لا يظهر له شاطئ. أعاني فيه من الحنين والتوق وأنتظر فيه أملًا يائسًا في الخلاص.أقلب جسدي ناظرًا إلى أسفل، تغمر المياه وجهي، واكتم انفاسي، محاولا الغرق. لكنه لا يأتي. وللدهشة أرى وجهك أمامي باسمة الثغر، مشرقة الوجه. ولا يسعني إلا أن أعود ميمما وجهي إلى السماء لأمعن النظر في النجوم الساحرة. وأتلذذ بالهدوء  والسكينة وتلك السعادة الغامرة في حضرتك.
شقشقت والنور بشاير 
زهرة الصبار يا سلمى. 

لم آت لألقي عليك سلاما، وإنما جئت لألقي عليك كلمتي. وأتلو قصيدتي. وأعيد ترتيب الوجود. 
فلا ترحلي. وتعالي إليّ. وأمنحي روحي السلام. 
أبقى ضامن أمشي آمن 
أبقى عارف أمشي فين **




*الفقرة مقتبسة من سوانح فتاة لمي زيادة/ طبعة دار المحروسة 2016
** الكلمات المائلة من قصيدة كلمتين لمصر لأحمد فؤاد نجم مع تعديل طفيف 

الأحد، 7 يناير 2018

على الحافة

الفقد تجربة قاسية، لا يمكن تجاوزها إلا بفقد أكبر، والتقويض ليس لك عليه طاقة، لن تشفيك موجات الاستهلاك، والأحاديث التفاهة، ولن تطهرك الآلام، ولن تبعدك لحظات التخدير الصافية. تدور السماء كما يدور رأسك، بلا غاية، لكنها لا تدرِك، وأنت مصاب بالدوار لا يستطيع أن يتوقف. روحٌ تسكن في الجسد. تتجلى فيصيبه الوهن. وتتبخر فيأكل بعضه بعضًا. ويصبح فؤادك فارغًا بلا رابط. يجعله من المؤمنين، والكون ملهاة كبيرة والحياة عجلة ندور فيها. يديرها موت. تزداد سرعتها حتى ننتشي. ويُختَطَفُ أحدُنا فلا يلاحظ الآخرون. واذا انتهت اللعبة كانت المأساة. والويل كل الويل للمشاهد من أعلى، للذي يعي تلك الصورة، فلا هو قادر على النجاة، ولا هو يستطيع التلذذ.

لا أظن أني سأستمر حتى الثلاثين، سينتهي كل شيء قبل ذلك، سأموت بلا إرادة خاصة، وستنتظم كل تلك العثرات مرة اخرى وتلتئم لتشكل حياة أخرى لا أسهر على إيجادها، ولا أجلس منها مجلس المراقب.

ستنتهي حياتي تلقائيًا. وربما أشارك في ذلك بشيء من إرادة واهنة. تحارب حتى الرمق الأخير في مطاردة أفكارك، وينزوي هو في جوانب قابلة أن تكون متنفثه الخاص، وتستجدين أنتِ العديد والعديد من الأشياء والأشخاص والمعاني لكنها لم تشفع لتآكل ذاتِكِ الواهنة اليومي. ولم تجد أنتَ ما يمكن أن تتشبث به في سبيل الخلاص.
عشت مؤخرًا حياةً فوق طاقة احتمالي، كآبتي زيفت كل الحقائق وكلما أمسكت بحبل، تخيلته فخًا، فاتحلل منه.

سيحين وقت الراحة قريبًا، صمتٌ أبديٌّ سيحل محل الوجود الضخم المعذِب، وسأنعم لأول مرة بحالة ذاتية تفرض نفسها على الوجود، تستمر تلك الحياة الفاضحة في الحركة، تدور الأفلاك والسيارات، وتشرق الشمس وتغرب يوميًا، سيستمر الجميع في التنفس لن يختلف شيء، سيذهب الناس إلى أعمالهم في الصباح، ويأوون إلى الفراش في الليل، ويتحدثون أحاديث جانبية، وجدتها طوال حياتي سخيفة، ولم أتأقلم معها أبدًا، سيستمر الأصدقاء في التجمع، للحديث، لللعب، للمزاح، للتدخين، للغناء، للعبث.

بينما أنا أنعم بالثبات واللا حركة. سيغيب العالم عني كما سأغيب عنه. لن أراقب تلك السرعة. ولن أحاول قياس التغير مرة أخرى. سيجري النهر كما أراد. ولن أُضطر إلى نزوله. حيث سأتعفن في مكاني بسلام. ستأكل الديدان جسدي كما أكلت روحي الأيامُ. وستدثرني الرمال كما دثرت حياتي الكآبةُ.

آن لجسد هزيل حافظت على سلامته طوال الواحد والعشرين ربيعًا أن يرتاح. جسد لم أؤذيه قاصدًا من قبل، ولم أتعنت في اصلاحه أو مداواته، حافظت على رئتيّه ورديتين كما خلقتا، ولم يتسلل إليهما شيء من التدخين، ولم يصل إلى الكبد شيء من الخمر، لم يتورط قلبه في علاقات مستنزِفة، ولم يستَنزِف أحدًا يومًا ما، حافظت على صفوه قدر استطاعتي. ولكن -رغم ذلك- غرقت الروح في بحر غامض ليس له قرار، بينما ظللت أنوح عليها كل يوم. وأستجديها في كل موقف أنّت له يومًا. أو ربطت بينهما علاقة. كانت تستجيب وترحل سريعًا بلا أثر. حتى اختفت نهائًيا.. دفنتها الأيام. كما سأدفن يومًا ما. ماتت غرقًا بينما سأموت اليوم من العطش.

الموتُ هزيلٌ، يقتات من حكايا الخوف، ويتفرعن من حب الحياة، لكنه ضعيف، وواهن، وغير حقيقي، وغير مفعم بالسوداوية. ها أنذا سوف أقفز. أرى في عينيه الذعر، وأعلم أن في عيني شيء من اللامبالاة.  هو وجه العملة الآخر للحياة. الغياب في مقابل الحضور، الشعور في مقابل البلادة، لكنهما من معدن واحد عابث. لم يُصك كما عليه أن يفعل.

تغدو الحياة على الحافة ممكنة ما بين الوجود والعدم، يصبح الاختيار حينها ممكنا بين الحياة بتعابيرها المختلفة. والموت بكل ما يحمله من أجوبة وجودية، ومخاوف لا نهاية لها في الحياة. القفز أو العودة. قبلة الحياة أو حتمية الموت.
في عالمي لا توجد حواف!  هناك فقط أفق شاسع، يتآكل الضباب فيه كاشفًا عن صمت هائل.


صورة جثة أحد الأشخاص قبل دفنها، وكانت تلك عادة منتشرة في العصر الفيكتوري 


حينما أختار موتي لا أموت
لا يموت المرء إلا مقسرا
حينما يختارني موت أموت
من يختار لي أن أجبرا
-أمل دنقل-

الجمعة، 11 أغسطس 2017

شيء عن الحب

يَا لها مِن لَحظَةٍ مُدهِشَة
حِينَ تَجَلَّيتِ أَمَامِي
كَحِلمٍ مُشرِقٍ خَاطِف
كَلَمحَةٍ مِن الأُنُوثَةِ المُكتَمِلَة

عالم المُثُل فكرة يكتنفها الغموض، وتفتقد إلى الكثير من الخطوط العريضة، أطلقها أفلاطون قبل آلاف السنين، وقُتلت على يد تلميذه النجيب أرسطو، لكنها لم تبرح أفئدة الشعراء، ومخيلة الأدباء.
يتصور أفلاطون أن الحياة الواقعية بكل أشكالها، المادية والمعنوية، والروابط بينهما، ما هي إلا ظلال لوجود أكمل، انفصلنا عنه بشكل من الأشكال، وأصبحنا هنا. في هذا العالم لا يوجد إلا الآلهة، فلا شر ولا نقص ولا عجز، وكل ما نعرفه في هذه الحياة الدنيا، موجود بشكل كامل في عالم المُثُل.

واحدة من أكثر أفكار أفلاطون ارباكًا هي فكرته عن الحب، اعتقد أن الحب هو سعي نحو الكمال، وخطوة حقيقية في سبيل الحقيقة الصوفي، ففي عالم المُثُل كانت هناك كائنات متكاملة، بلا جنس متمايز، كائنات تحمل الجنسين وتمتلك أربعة أذرع وأربعة سيقان، ورأسين، عاقبها الإله بالانفصال، والحب ما هو إلا إعادة لم الشمل الحقيقي.

تؤكد فكرته، سلبًا، أن الشريك المثالي محدد مسبقًا، لا يكفي أن نبحث عنه جيدّا من ضمن مجموع البشر، بل علينا أن نتأكد من الاختيار، الذي يعاني من نسبة نجاح ضئيلة للغاية، كما تؤكد حقيقة عالم المُثُل أن مسعى الكمال سيظل دائمًا يعاني من النقص!.
ويتجلى الإرباك حقًَا في عملية الإدراك لطبيعة ما يُحاول أفلاطون حصره، فقد تحدث عن الحب بشكل لم يتفوق عليه أحد، وحكم على كل المحاولات بالخذلان.
 هل نُحسِن فعلًا الاختيار؟!، وهل من العقل أن نختار في ظل امتحان محكوم عليه بالفشل؟!، هل نسعى إلى الكمال بإيمان أن المصير محكوم بالنقص؟!
لقد تُركنا هنا.. بلا طرق وبلا إرشادات.. وكل الأصوات تنادي: هيا!
ولكنّي لا أملك سوى ان أدون عجزي عن المسير.

"أيا صديقة..
على وجه اليقين لا أعلم ما الذي ينتابني، ولكنني أفكر فيكِ كل يوم، وأتذكر أحاديثنا في كل لحظة، وكأن طيفك لا يبرح مكانه بالقرب مني، وكأنه لا يعبأ لرحيلك، وطول المسافات التي تقبع بيننا.
 أخوض غمار المجهول ولا أعلم كيف أصف أو أفسر.

 لو أنني أحببتك مثلما يُحب الناس لوهبت لعينيك مجازًا تردده الألسن في أنحاء العالم، وتتأوله الأفهام في كل الأصقاع، وتُقسم به الأنفس آناء الليل وأطراف النهار، لأهديتك مجازًا كرؤياك وتجليك خلال أيامي، ولجعلتك رمزًا لهذا العالم، الذي لم أشيده لكني أحس تجاهه بما هو أسمى من المحبة. من خلالك عزيزتي أرى العالم صافيًا هادئًا وقابلًا لكل ما أريد قوله، وأمام عينيك تتكشف لي حقيقة نفسي، أراني ضئيلًا وياللعجب لا أشعر بالحزن أو بالغضب، أشعر فجأة برغبة حارة في احتضان نفسي، وقوة في أن أبتسم في ظل وحدتي، تؤانسني صورتك، وتملأ أركان قلبي، فلا يسعه أن ينشغل بشيء وفي حرمه بعض منك.

 لن أقول فيك نصًا واصفًا فمن ذا الذي يقدر على وصف هذا الجمال، وأيضًا لن يكون حديثي حقيقيًا بلا مجاز فتتنازعه الناس ويختلفوا من حوله. سأنشدك شعرًا دون أن أعيّ في بيانه، وسأقف في حضرة جلالك أرافع عن قضيتي دون أن أحصر. متطهرًا من كل ما أملك، ملقيًا كل أحمل، متخليًا عن ذاتي الضعيفة الواهنة، التي لا تستطيع أن تحلق ما لم تهبي لها قبسًا من الروح."

تحت الأرض خليكي
بركان يتغزل فيكي
خلّي الجذور تحميكي
بترجى فيكي

الاثنين، 15 مايو 2017

أحببت شيئًا ولم أملكه


يخيل إليّ أحيانًا أن مقصد الكاتب هو الأهم في كل مرة ومع كل نص. فرغم بساطة ما يمكن أن تبديه الكتابة من معنى فما تخفيه دائمًا أعظم. فما الذي يملكه الكاتب في جعبته يستحق أن يقال؟!

في مثل هذا اليوم منذ أربع سنوات بدأت في النشر في مدونتي العزيزة، لا أتذكر تلك اللحظة بالتحديد التي حاولت فيها أن أعيد صياغة الأمور من حولي، صياغة تتناسب مع ذوقي المتردد دائمًا في قبول ما يقدمه لي العالم والآخر، كما أنني لا أتذكر سببًا أساسيًا دفعني للكتابة، غير إحساس ضئيل بالتجربة والشغف للتعبير عن شيء لم يُحدد منذ البداية.  بأسلوب ردئ وبفكرة مشوشة انطلقت في رحلة الكتابة.

كحال كل المفاهيم  الذاتية التي تنبع من الوجدان، تغير معنى الكتابة، كنت في البداية أدون الأحلام، وأحبك الخيالات، وأحلم بوجود عالم آخر، يُمكن أن أبوح فيه بشعوري، أو أبادل فيه من أريد بما أريد، عالم لا يُمكن أن يُسكت الخجل فيه شيء، ولا يمنع الخوف فيه شعور، كنت أُدون صراعي الأول، الذي ظننته وقتها صراعًا مفعمًا بالصليل، والكر والفر ولكنني عرفت في النهاية أنه لم يكن كذلك.

كانت كتابات مشوبة بشيء من الحزن الغير مفسر، ورسائل لم تكن لشخص محدد، وكأني بكتاباتي هذه أحاول أن أفسر طبيعة ما كنت أقوم به وقتها.  أتذكر أحيانًا أسباب ذلك الحزن فأبتسم، وأستعرض حياتي وقتها فأضحك. كانت الكتابة وقتها أداة من أدوات الفهم، ووسيلة لقراءة ذاتي وواقعي، كانت كتابات حقيقية في وقتها، مفعمة بسذاجة المحاولات، وبساطة الأفكار، وحاجة الإنسان الملحة لاكتشاف وتدوين كل ما هو غريب.

كتبت ياسمين أكرم مرة.. وأقتبس من المعنى هنا "أريد ان أكتب كما يكتب الرجال، أواجه العالم بشجاعة، ولا أتعثر في ذاتي"
عقب خروجي من الاحتجاز انقطعت عن الكتابة، كان قرارًا إراديًا نابعًا من رؤيتي للكتابة، الكتابة محاولة هادئة ومستقلة لاكتشاف الذات والعالم، من غير الجيد أن يتم شحنها بالغضب والكراهية، أو بالأغراض السياسية المختلفة. كنت غاضبًا ومشحونًا إلى أقصى درجة، فآثرت أن أبتعد وأواجه.
طالت فترة الانقطاع وتحول كل شيء، خسرت صديقتي العزيزة، ودار العالم من حولي، أصبح انقطاعي بلا إرادة، وانتقل من كونه قرار إلى كونه حالة من اليأس، وكأن الكتابة هي محاولة لمواجهة العالم بأبعاده كلها، مواجهة ذات عبء ثقيل لا أتحمله أبدًا، انتهى الأمر لقد فشلت في مواجهة الواقع، فلا داعي للكذب من خلال الكتابة.
في الماضي كانت الكتابة مهنة.. الآن أصبحت الكتابة إجابة..!

أكتب الآن بلا غاية مسبقة، أكتب بإرادة خالصة، تلتصق بكل نص على حدة، تتشكل له بصورة مختلفة، أحيانًا أكتب لأني غاضب، أحيانًا اكتب لأني أريد ان أقول وفقط، أحيانًا أكتب لأن هذا واجبي، وأحيانًا أكتب لأني فاشل في كل شئ. لا يوجد غاية أساسية ودافع يجمع كل تلك الرغبات، غير أن تلك العشوائية هي أفضل ما يُمكن أن يُعبر عني الآن. لا أكتب كي أصارع وأثور وأكافح.. أكتب فقط لأني أحيانًا وبرغبة مضطربة أريد هذا..!

أريد أن أكتب عن شئ .. أي شئ .. كل شئ