الاثنين، 24 سبتمبر 2018

تعيش وتفتكر

في نهاية عام 2011 فقدنا عمي الأصغر.
 كنا قد خَبِرنا الموت من قبل في العائلة، وفي العمارة، لكنها كانت المرة الأولى التي يتسلل فيها بلا مقدمات، ويختطف الأعز، والأصغر، في أسبوع واحد يعاني فيه من المرض، يتضاعف الأمر في أيام قليلة، يُحجز في المستشفى ويموت بعد ثلاثة أيام. 

أتذكر أحاديثه رغم حداثة سني، أذكر أنه كان الأكثر شبهًا بأبي، حديثه عن الأوضاع، واهتمامه بما يحدث، ومرحه الذي يغلب على الجد عنده، وتأففه من الأمور إذا زادت عن نصابها، وغضبه الفج إذا غضب، هو في ذلك مثل أبي، هما الأكثر شبهًا في الصفات، رغم ابتعادهما في الشكل. 

يحكي لنا أبي أن عمي مصطفى أحضر صندوقًا كبيرًا له كهدية لزواجه من أمي، سَعِد بها أبي غاية الفرح، وشرع في فتحها، وكلما فتح الصندوق، وجد به صندوق آخر أصغر حجمًا، واستمر في فتح الصناديق واحدًا في إثر آخر، حتى وجد صخرة في النهاية. وصارت تلك حكاية يتندرون بها كلما سنحت الفرصة للقاءات عائلية، كانت كثيرة فيما سبق، وأصبحت تقل تحت وطأة الأيام وتسارع الأحداث. 

أذكر أننا في في عام 2000 كنا نقوم بإعادة طلاء المنزل بالكامل، كان لعمي أصدقاء "نقاشيين" أخبر أبي أنه سيحضرهم، ثم توالت الأيام، ولم يحضر أحد، وعلى سبيل الدعابة أمرنا أبي بالهبوط إليه -حيث يسكن عمي في الدور الأرضي، بينما نسكن نحن في الدور الثاني- هاتفين "يا مصطفى يا مصطفى .. أين ناجي يا مصطفى" على نفس لحن الاغنية الشهيرة  -ناجي كان اسم رئيس هؤلاء "النقاشين"-.
وكأن المرح دَيْنٌ يجب قضاءه = )   

كانت هذه هي خبرتي الأولى بالموت، الموت الحقيقي لا الفقد السرمدي، الجسد بلا روح، والإجراءات البيروقراطية، وثلاجات المستشفيات الصدئة، وجسد عمي يستلقي في انتظار الغُسل، حضرتُ الأمرَ، وعرفت الموت عن قرب، كنتُ شاهدًا لا سامعًا، وكنت باكيًا لا منتحبًا. استنشق رائحة الكافور كلما تذكرت الموت، الكفن الأبيض، اللفة من الأعلى والأسفل، والغطاء البنفسجي ، الذي يغطي كل ميت قريب إلى القلب. 

حضرت السيارة وركبنا ذاهبين إلى المسجد، لتأدية صلاة الجمعة ثم صلاة الجنازة بعدها، أبي بجوار السائق وأنا وعمي تيسير بجوار الجثمان في الخلف. ربما أكون قد شاهدت بكاء واحد من أعمامي في السابق، لكن هذه اللحظة لا تكاد تُمحى من ذاكرتي، عمي تيسير ينظر إلى الجثمان ويبكي في صمت، ويدعو بخفوت. أذكر تلك اللحظة كأنها البارحة.  

رغم علاقاتنا العائلية القوية، وتشبثنا بأواصر القربى، لم تصل علاقاتنا بأحد خارج نطاق المنزل إلى شيء من الحميمية، نحافظ على مساحة الود البسيطة، أما مساحات الحب القوية فلم تظهر بيننا إلا مؤخرًا ولا تنشأ إلا نادرًا. أما عمي تيسير فربما يكون هو أحب الأعمام إلى قلبي، وأدرك أن فقده فادح على قدر طيبة قلبه وهدوءه ورزانته.  

يسكت وإذا تكلم قال شيئًا ذا قيمة، هادئ الطباع لا يتدخل إلا فيما يعنيه، دَمِث لم أر منه شيئًا شريرًا أبدًا، قريب إلى زوجته وأبنائه، ويعاشر أصدقاءه من المنطقة بالحسنى، بروح بسيطة وقلب سليم، كان الأكثر شبهًا بجدي في شبابه، وكان الأكثر عناية بحديقته بعد وفاته.  

في صغري وحال سفر أبي إلى الخارج، أتذكر طرقاته على الباب، محضرًا لنا لوازم للبيت، وأذكر أنه كان شديد العناية بجنينة جدي، حتى أنه كان يغضب كلما عبثنا بالأشجار، أو أفسدنا شيء من الورود. 

سأذكر عمي تيسير كلما نزلتُ لأصلي الفجر، حيث كان يفتح باب العمارة التي لا يملك مفتاح قفلها إلا أعمامي، ويذهب مبكرًا إلى المسجد قبل الإقامة، حيث ألحقه أنا متأخرًا، بينما يذهب أبي بعد وصولنا إلى مسجد تتأخر إقامته، أذكر أني كنت أحيانًا أرغب في الرجوع مسرعًا، فلا أسير مع عمي إلى البيت حيث يتأخر، خاتمًا صلاته كاملةً، أذكر أيضًا أني كنت حينما أتاخر في الرجوع عن الصلاة أحيانًا، أعود وأجده في الجنينة، يتأمل أو يزيل المخلفات في ساحتها التي أصبحت جرداء مع مرور الزمن. 

سأذكره وألعن كل لحظة فاتت لم أنتهزها للحديث معه. 

رحم الله عماي الأصغرين
مصطفى وتيسير   
20/9/2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق