الثلاثاء، 11 أبريل 2017

كنس مدخنة

حينما نريد أن نتحدث عن شئ ما، نحاول في البداية حصره وتأطيره، واكتشاف سياق يمكن أن يوضع فيه، ونشرع في الحديث عنه بعد ذلك. هذه العملية تُهمل أجزاء كثيرة قد تبدو للمتكلم ليست ذات أهمية، لكنها في الحقيقة تُشكل جزء من الاكتمال -على الأقل بالنسبة للمستمع-.
ما أريد قوله هو أنه لا يُمكن بحال من الأحوال أن نصف بشكل متطابق، نعم.. قد نقترب من المعنى، ونعم.. قد يصل هذا الاقتراب إلى المستمع، لكن محاولة الادعاء بأن هذا الكلام يطابق هذه الحقيقة هو من مجال المبالغة الفجة، إن قدرتنا نحن كبشر على مطابقة الحقيقة من خلال الكلام هراء وسخف، وحالما ندرك هذه الحقيقة يتمثل لنا سؤال الحقيقة بكل خيلاء... ما هي؟! وهل بامكاننا أن نحصرها؟! هل بامكاننا أن نتجاوز ما نسميه الحقيقة؟!
هذا بسيط للغاية لكنه جنوني لأننا حالما نعتبر الكتابة وصف رمزي للواقع، لا نعلم أيعني هذا أن الواقع أكبر من ذلك الرمز، أم أن الكتابة ليست سوى تعبير عن علاقات عابرة تافهة سعيدة!؟

"أستيقظ فأعود إلى الرتابة.. إلى اللاشئ.. لم أقفز بعد إلى هاوية، أنا على الحافة. لم تكن نهايتي إلا سراب، نهايتي أصبحت مألوفة أيضًا، كمخاوفي وهروبي، عقلي يتصارع بعنف، بلا حياء، بلا استئذان، أقف في منتصف الصمت، لا صوت قبل، ولا صوت بعد، لا أعلم ماذا أسمي هذا، لكنه ليس الصوت، ليس الضجيج، ليست الحركة، لا أراني، لا أسمعني، ولا أشعر بالألفة. وكأن شيئاً لم يكن.
 كأني لم أتخيل انتحاري بالأمس، كأن الدماء لم تُغرق ذاكرتي بصمت، كأن اللون الأحمر الداكن لم يتسرب ببطئ إلى عيني، كأنني لم أبك على ما فات، وما سيكون، وما يقف في المنتصف شاهدًا على ما حدث. هذا الذي ليس لي ولا أملكه، ولا لغيري ولم يعادني، لكنه صديق مؤرق، يقتطع الملذات، وينغص عليّ أوقاتي بالألم، وينتظر.. مثلما أنا دائماً أنتظر.. أشعر بقطرات ساخنة على خدي، فيدب في نفسي الحنين، وأبكي على ما حدث.. وما سألاقيه!"

أستيقظ تلك المرة وأفتح عيني على الواقع، أتأخر على ميعاد العمل، أكافح كي أصل، لأحصل في النهاية على عقوبة تأخير مغرية، أجلس لأنتظر انتهاء دوامي، لأسير في الشوارع بخطوات واسعة مسرعة.. إلى أين لا أعلم، إلى المنزل غالباً.. أعود إلى المنزل، أعد طعامي أختار ما أنا معتاد عليه، لا أغامر بوقت الطعام، ثم أنزوي إلى سريري كالعادة.. أنام لاكثر من عشر ساعات، لأستيقظ مرة أخرى على دوام عملي.

بالأمس كانت المرة الأولى التي أُفكر فيها بانعدام المعنى، انعدام يشمل كل شيء، يبدأ بكل تلك التفاصيل وينتهي إلى مجموعها، ليس بإمكاني أن أصف بدقة شعوري حيال ذلك، فأي وصف هو في النهاية محاولة للتوضيح، وأي محاولة للوضوح تجربة فاشلة لخلق معنى..!
حينما لا أكون على عجلة من أمري، حينما لا يزعج قلبي أي احساس، حينما ألتقي بغتة بنفسي في الطرقات، تراودني عنها وتدنيني منها، في تلك الأوقات الضئيلة التي لا يؤرقني فيها شئ أشعر بالحنين الجارف وأشعر بتآكل كل شئ داخلي من خلال ذلك الجموح، أشعر بتنامي احساسي بافتقاد الحاضر، وافتقاد الغضب والحماس والطموح، والفرح، والأمان.
لا يمكن إجمال ما أريد قوله إلا باليأس، أعاني من اليأس، وتقطع السُبل. أحاول أن أتمسك بصورة من الماضي، لكنها تتخلى عني ككل الأشياء، أحن إليها بشدة، أعلم أنها صورة لكني أعلم كذلك أني لا أحن إلى شئ قدر ما أحن إلى هذه الصورة.
أين تضيع سنوات الانتظار؟ لا أعلم!
 لم يشفع لي شئ أمام هذا اليأس، لا القراءة ولا الكتابة ولا المحاولات الحثيثة لإدراك اللحظة الراهنة، حتى إيماني المتخاذل دائمًا الذي ظللت أحفظه من كل سوء، وأُنميه وأسقيه من بنات أفكاري، انتهز فرصة ضعفي وهرب!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق